ما يزيد عن أربعمئة قتيل سقطوا نتيجة القصف الهمجي الذي نفذته الطائرات الروسية على مناطق سورية متعددة، معظمها إن لم نقل جميعها تقع ضمن مناطق خفض التصعيد «المزعومة» التي استنبتتها موسكو وشركاؤها في الأستانة .
لا نذكر هذه الأرقام بدافع الإستغراب أو الاستنكار رغم أن الموضوع أكبر من الإدانة والاستنكار لكن نطرحه لندلل على أن هذا الاستهداف والتصعيد في القتل والتهجير واستهداف المشافي وتجمعات النازحين،هي المخرجات الحقيقية لحوار أستانة 6.
بعيداً عما اتفقت عليه موسكو وحلفاؤها رسميا في الأستانة، دعونا نعود إلى النقاط الأهم التي جاءت على لسان مندوب موسكو» ألكسندر لافرنتييف» في تصريحات صحافية، في ختام محادثات الأستانة، أن عملية «الفصل «بين المعارضة السورية البناءة والإرهابيين لم « تكتمل» بعد، داعياً المعارضة إلى التحلي بمواقف بناءة والتخلي عن طرح مطالب مستحيلة التنفيذ، ومنها فكرة إنشاء «جيش وطني»، باعتبار أن الهدف منه يكمن في مواصلة الجهود لإسقاط تنظيم الأسد. وفي تصريحات أخرى لمسؤولين روس قالوا فيها أن الخطوة التالية ستكون محاربة كل الفصائل التي تدعو لإسقاط تنظيم الأسد.
من هنا علينا أن نفهم وندرك سبب التصعيد الروسي الأخير وحجم التوحش الذي حملته الطائرات الروسية الاستراتيجية.
«مخرجات الأستانة الحقيقية»
كما توقعنا، استمرت روسيا في دعم تكتيكها ضمن استراتيجة أكبر، تقسيم الثورة السورية إلى ثلاثة أقسام معارضة سياسية تعيش في المنفى عملت على تهميشها، فصائل مسلحة مدجنة تقبل بما يحيكه النساج ال إيران ي وتبتلع ما يقدمه الطباخ الروسي، ومعارضة متطرفة يجب القضاء عليها. وأوجدت شرخاً كبيراً بين هذه الفئات الثلاث حتى يسهل عليها القيادة والسيطرة.
لو تدبرنا بعناية ما تمخض عنه أستانة»6»من نتائج سنختصرها بـ : التجميد لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد، مقابل عدم حرق وتدمير مناطق تخفيف التصعيد. ستة أشهرهي الفرصة التي منحتها موسكو لنفسها للقضاء على الثورة السورية وفي حال الفشل تمدد لنفسها.
لاحظوا أن موسكو لم تطرح التجميد الثنائي كما فعلت الصين بموضوع كوريا الشمالية وتبنتـه لاحقاً موسكو، الأمر الذي رفضته مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن واعتبرته بالسخيف، وقال عنه دولاند ترامب إنه من غير المعقول يطلب منا أن نجمد أنشطتنا في الوقت الذي يطور فيه العدو «كوريا الشمالية» المزيد من الأسلحة. بيت القصيد الذي ترفض الفصائل المشاركة في الأستانة أن تفهمه.
التجميد مقابل التجميد الذي طرحته موسكو بخصوص كوريا الشمالية ورفضته واشنطن، عادت لطرحه على الفصائل السورية المشاركة في الأستانة ولكن الطرح الروسي «التجميد» ليس مقابل التجميد بل من أجل أن لا تقتلوا جميعكم ومن ثم قتلتهم كما هو حاصل، ولم تفرض الأمر ذاته على ميليشيا تنظيم الأسد والعصابات متعددة الجنسيات الداعمة له، ولا يطبق الأمر ذاته» التجميد»على المنظمات الإرهابية الكردية الذراع العسكري لحزب العمال الكردستاني الإرهابي المتطرف.
اتفاق تخفيف التصعيد
فرض على الفصائل الثورية تجميد نقاط قتالها مع تنظيم الأسد ومع الميليشيات الانفصالية الكردية. وسمح هذا التجميد» تخفيض التوتر» لميليشيا الأسد أن تنقل قواتها من الجبهات المجمدة إلى جبهات جديدة في ظل الاستنزاف الكبير الذي تعاني منه تلك الميليشيا من اتساع مساحة الجبهات ونقص عدد مقاتليها وطول طرق الامداد وعدم تأمينها،الأمرالذي سهل وساهم بسيطرة تنظيم دمشق على مزيد من الأراضي الخارجة عن سيطرته.
الأمر الثاني الذي علينا ان ندركه دون لبس أن إيران حصلت على مباركة دولية واعتراف رسمي بوجودها في سوريا باعتبارها طرفاً ضامناً ومراقباً لمناطق «التجميد» تخفيف التوتر، ولزيادة في الشعر بيت ربما تنشر قواتها للفصل بين القوات، وللمراقبة.
«أستانة 6» تعد «المسمار الأخير الذي دق في نعش الفصائل الثورية المعارضة بعد أن استطاعت موسكو تقسيمها إلى سياسية وعسكرية، والعسكرية قسمتها ايضاً إلى اقسام . معتدلة، أقل اعتدالاً ،متشددة، إرهابية.
الجولة السادسة لأستانة، كان هدفها الرئيسي توزيع الكعكة السورية ووضع خرائط مناطق نفوذ الأطراف الدولية والإقليمية أمريكا «الميليشيات الكردية» وروسيا، في المقام الأول، و إيران « حزب الله» وتركيا.
هذا ليس استنتاجاً بل حقيقة تعززها التطورات الأخيرة التي شهدتها الساحة السورية، مثل الحديث حول صفقة بين إيران وتركيا لتبادل الاعتراف بنفوذ كل منهما، إيران ، جنوب دمشق، مقابل مناطق نفوذ تركية في محافظة إدلب، الأمر الذي اكدته نتائج استانا ستة. فضلا عن التصريحات الروسية المتباهية بسيطرة الأسد على أغلب المناطق السورية.
أستانة، تجاهل ملف المعتقلين وادخاله في متاهة لا متناهية من تشكيل لجان تبحث عن سبل الإفراج عنهم بعد أن يتم التأكد من أو ضاعهم وإيجاد الآليات المناسبة والقنوات المتخصصة لمناقشة أنجع السبل الكفيلة بالوصل لمعرفة هل هم معتقلون أم مختطفون أم مفقودون أم أنهم «دواعش» أو من أصحاب الفكر المتطرف، والمباحثات في هذا المقام ستستمر دون كلل أوملل.
أمريكا ضمنت مصالحها
واشنطن عملت في الفترة الأخيرة على ضمان مصالحها في سوريا خاصة في الشمال والبادية السورية، بإنشاء المطارات والقواعد، وتدعيم الوجود الكردي عسكريا، ما سمح لهم بالتقدم ضد تنظيم الدولة في الرقة ودير الزور.
بالعودة إلى إيران ، منذ أعلنت واشنطن موافقتها على اتفاق «خفض التوتر»، جنوب غرب سوريا بالتوافق مع الروس، فإنها عمليا قد وافقت وشرعت الوجود ال إيران ي على بعد 40 كم من الحدود الفلسطينية والأردنية، الأمر الذي لم يرق لنتنياهو.
مزيد من إضعاف المعارضة
نعتقد أن الهدف الأخير لجولة محادثات الأستانة حول وضع خرائط مناطق تخفيف التوتر، والحديث حول محاولة التوصل لرقابة مشتركة بين الدول الضامنة الثلاث في إدلب، يأتي لتعزيز إضعاف وضع المعارضة السورية خاصة العسكرية، بفصلها عن المعارضة السياسية وبفرض التجميد الأحادي عليها.
وهذا ما يمكن قرأته في طلب الأردن من الجيش الحر تسليم معبر نصيب لتنظيم الأسد، وهو ايضاً احد مفرزات مناطق تخفيض التصعيد.
أستانة 6، تكريس بقاء الأسد
نتوقع أن تكون الخطوة التالية بعد تقسيم الغنيمة السورية في «أستانة 6»هي الذهاب لعقد جولة جديدة من مباحثات جنيف. وسيتم الإعداد لتلك الجولة من خلال مؤتمر ثان للمعارضة في الرياض.
في حال فشل مؤتمر الرياض في تشكيل وفد واحد للمعارضة يمثلها في جنيف، فإن القوى الدولية ستستبعد الفصائل المعارضة التي تعترض على مخرجات الأستانة والتوافق الروسي الدولي على مخرجات الحل النهائي في سوريا بالقراءة الروسية.
قبل السؤال عن توقعاتنا لجولة جنيف المقبلة، المتوقع أن تكون تكريسا لبقاء الأسد، وتقنين تقسيم النفوذ بين القوى الدولية. الفئات السورية التي ستعترض على المخطط الروسي ستجد نفسها خارج اللعبة الدولية على سوريا، أو سيكون مصيرها يشابه مصير فصيلي «أحمد العبدو» و»أسود الشرقية»، أو مصير فصيل «حركة شباب السنة» التابعة لفصائل الجبهة الجنوبية العاملة جنوب سوريا، الذي اتهمته المتحدثة باسم الخارجية الروسية، «ماريا زاخاروفا» أن فصيل «شباب السنة» التابع للجيش السوري الحر، يملك عدة صواريخ تحمل رؤوساً مزودة بمواد سامة .
إعلان ترامب وقف المساعدات العسكرية للجيش الحر، والضغوطات الأردنية على الفصائل المسلحة في البادية بالانسحاب إلى الأردن وتسليم معبر نصيب لتنظيم الأسد كل هذه المؤشرات تصب في بركة واحدة تعزيز بقاء الأسد، بالتعبير الروسي الانتقال لمحرحلة القضاء على الفصائل التي تنادي باسقاطه.
المصدر : القدس العربي