لطالما شكلت الجغرافيا بالنسبة إلى لبنان عاملاً سياسياً مؤثراً في مسار الأحداث. ولطالما اعتبرت سورية لبنان خطأً تاريخياً لا بد من تصحيحه، وهي التي لم تعترف باستقلاله إلا على مضض بفعل موازين القوى العربية والدولية. لقد لعب السُنّة والموارنة، عرّابا الصيغة اللبنانية، أدواراً متكاملة لكن غير متكافئة سياسياً، حتى الإعلان عن اتفاق الطائف: السُنّة كممثلين للمسلمين ببعدهم العربي والاسلامي الواسع، والموارنة كممثلين لمسيحيي لبنان بعلاقاتهم المميزة والخاصة، اقتصادياً وثقافياً، مع الغرب.
منذ الاستقلال حتى الطائف، قاد السُنة مطالب المسلمين في لبنان، وتصدوا لقضيتين أساسيتين: الأولى، رفض هيمنة المارونية السياسية المطلقة على مركز القرار في الدولة التي أصرت على رفض إصلاح النظام السياسي، بحيث رفعوا شعار المطالبة بـ «المشاركة» بين المسلمين والمسيحيين. والثانية، كانت تمكيناً للتعويض من الخلل والغبن الداخلي، ما عبّد الطريق إلى أخذ لبنان إلى البعد القومي الثوري بعد هزيمة ٦٧، والذي تُرجم باتفاق القاهرة وتعديل نسبي في موازين القوى وتحويل لبنان دولة مواجهة بعدما كان دولة مساندة.
وعلى رغم موقف السُنّة القومي، فالنظام العربي الذي كان سائداً بين الخمسينات وأوائل التسعينات، بما فيه موقف المقاومة الفلسطينية، لَم يساعدهم على بلورة حالة سياسية لبنانية عربية مستقلة عنهم، بل جرى إجهاض حالة كهذه في أحيان كثيرة، نتيجة الظروف والتناقضات العربية الإقليمية والدولية السائدة.
فحين وُقّع الطائف، اعترف بنهائية حدود الكيان اللبناني، كما قضى بوضع دستور جديد يراعي التوازنات بين مكونات المجتمع. وكان للرئيس الشهيد رفيق الحريري دور محوري في إخراج هذا الاتفاق مدعوما عربياً، الأمر الذي أنتج لاحقاً ما عرف بالحريرية السياسية التي لعبت دوراً مهما في الحياة السياسية والاقتصادية للبنان، وفي إبراز دور السُنّة الحداثوي في تجديد وإعادة تحصين الكيان اللبناني التعددي والمتميز في هذا الشرق، بعدما حاول النظام السوري طوال عقود وجوده الأمني احتواء لبنان وإلحاقه قسراً. كذلك ساهمت الحريرية السياسية في تعبيد الطريق أمام العمق العربي والإسلامي باتجاه الكيان اللبناني لدعمه كدولة وطنية بحدودها النهائية، وذلك بعكس المسار الذي كان سلكه سُنَّة لبنان قبل الطائف. لقد شكل اغتيال الحريري زلزالاً إقليمياً ووطنياً شعر فيه السُنّة بالخسارة المدوية وبأنهم أصبحوا مستهدفين بدورهم وموقعهم، خاصة من النظامين السوري والإيراني، واللذين يملكان مشروعاً للهيمنة من خلال أدواتهم التنفيذية في دول المشرق واعتمادهم سياسة تحالف الأقليات.
لكن اندلاع ما عرف بالربيع العربي جعل الصراع يشتد بين محورين، عربي وإيراني، ما حدا بحزب الله إلى محاولة الإطباق البطيء على الواقع اللبناني، من دون التمكن من الإمساك الحاسم به، نتيجة حالات الاعتراض الداخلية الجدية على مشروعه، واحتمال أن يضع مصير لبنان بصيغته التعددية على حافة الهاوية.
لم تتمكن الحريرية السياسية لاحقاً من ردم كامل الفجوة الضخمة التي خلفها غياب المؤسس، نتيجة للهجمة الشرسة عليها وجنينية الحالة التنظيمية لتيار المستقبل. وبتراجع الإمكانات المالية والخدمات الاجتماعية لديها، وفي ظل غياب المشروع العربي الواضح والداعم للدول الوطنية العربية وفي مقدمها لبنان، في مواجهة المشروع الإيراني المتمذهب، لم يتمكن تيار المستقبل من تأطير منظم شامل للبيئة السنية الحاضنة له، والتي تعرضت لمظلومية تلو الأخرى على يد الشيعية السياسية المتمذهبة والمسلحة، والتي تحاول بوعيها الممنهج وسعيها الدوؤب تفتيت هذه البيئة.
إن مصير الدولة الوطنية المستقلة في لبنان برئيسها المسيحي، أصبح مرتبطاً حكماً باستمرار الشراكة الكاملة مع السُنّة الملتزمين بمشروع الدولة المدنية، وبالشراكة مع بقية المكونات التي تلتزم شكلاً ومضموناً بحدود الكيان ونهائيته، والمناقضة لمسار الشيعيّة السياسية المتمذهبة والمسلحة والملتزمة ايديولوجية دينية مذهبية تعتبر نفسها جزءاً من الدولة الإسلامية المذهبية في إيران. والتحديات الكبيرة والخطيرة التي تواجه السُنّة تطرح عليهم سؤالاً: «ما العمل وإلى أين»؟ وهذا يوجب على القيادات والمرجعيات والفعاليات السنية التوحد والتعاضد لبلورة ميثاق عمل موحد من منطلق وطني تعددي غير ديني أو مذهبي، والإعداد لبرنامج عمل نضالي سياسي وطني وسلمي ديموقراطي لتعطيل محاولات الهيمنة والإلغاء التي لن توفر أحداً من القوى الوطنية ومن رموز السُنّة، وبالتالي ضرورة تجاوز الخلافات بينهم.
إن بديل التسوية التاريخية التي تمت قبل ٢٨ عاماً، هي حرب داخلية مستدامة نعلم متى تبدأ لكن لا نعلم متى تنتهي. وهذا ما سيُحتّم على الرئيس سعد الحريري السير على خطى ونهج والده الشهيد رفيق الحريري داخلياً وعربياً ودولياً، وما فعله في ظرف كان من دون شك أكثر تعقيداً.
المصدر : الحياة