يترك المجتمع الدولي السوريين بلا خيارات حقيقية، عندما يعلق مصير سورية بمفاوضات ما بعد التسويات التحاصصية، الدولية منها (روسيا -إيران- تركيا- والولايات المتحدة الأميركية)، والمحلية (النظام والمليشيات التي تقاتل معه من جهة، والفصائل المسلحة التي تسيطر على مناطق المعارضة من جهة أخرى)، متجاهلاً -هذا المجتمع- أن الثورة السورية لم تقم بغرض السيطرة العسكرية على مناطق هنا وهناك، وأن هذه الفصائل المسلحة كانت نتيجة مباشرة لفتح النظام البلاد على مصراعيها أمام كل القوى، سواء المساندة له أو المواجهة لقواته، بهدف تحويل الصراع في سورية من صراع سياسي، هدفه إقامة نظام ديمقراطي يحفظ حقوق المواطنين السوريين في حياة حرة كريمة، إلى صراع على السلطة تحت مظلة العسكر والمسلحين، لينتهي الأمر بعقد تسوياتٍ بين قوى مسلحة، ليس ضمن أولوياتها أو أجنداتها تغيير نظام الحكم القائم، وإنما تقاسم السلطة والصلاحيات والنفوذ، وطبعاً التبعيات لما يُسمَّى الدول الضامنة.
وعلى ذلك، تقف المعارضة السياسية المشتتة، على أبواب الاستحقاقات المصيرية، منزوعة الأظافر، حيث اقتطع منها ما استندت عليه وهماً (الفصائل المسلحة) على أنها قوة بيد الهيئة العليا للتفاوض، صاحبة قرار الحرب والسلام، فيما أثبتت روسيا من خلال مسار أستانة حجم الوهم الذي عوّلت عليه الكيانات السياسية في شراكتها هذه الفصائل على طاولة مفاوضات جنيف، حيث لبت الفصائل نداء روسيا، في عقد اتفاقيات متعددة ومتنوعة تربط مصير السلاح المعارض بمسار واتجاه واحد، يخالف في مضمونه ما عوّلت عليه تصريحات المسؤولين عن التفاوض، فالسلاح الذي حرّر نحو نصف مساحة سورية هو الذي أرغم النظام عام 2014 على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، مقابلاً للمعارضة التي يعتبرها إرهابية، هو السلاح نفسه الذي غيّر المعادلة، ومنح النظام مساحة للتنفس، واستعادة السيطرة على ما كان خسره قبل عام 2014، حيث أسهمت اتفاقات التسويات والهدن المحلية بذلك، وتبعها اليوم ما سُميت اتفاقيات خفض التصعيد التي بقيت حتى اليوم من دون مساندة أو عداء واضح من الهيئة العليا للتفاوض.
ولعل هذه المقدمات هي ذاتها التي تربك اليوم الهيئة العليا للتفاوض في اتخاذ قرارها الواضح تجاه ما يعدّ لها دولياً، حيث يوضح بيان الاجتماع الختامي لها الذي عقد في الرياض الأسبوع الماضي حجم الإرباك والتخبط والخوف في آن معاً، من الرغبة الدولية في خلط أوراق المعارضات السياسية المشتتة والمتباينة في الرأي والرؤية، والمختلفة في قياس “مرونتها” التي يتم الحديث عنها في الأروقة الدولية والاجتماعات التي تخص سورية في غياب السوريين أنفسهم، نظاماً ومعارضة، فالبيان الذي هو ثمرة اجتماعات ونقاشات، وبتكلفة مالية تزيد من أعباء الاتكال على الآخرين، والارتباط بهم ممولين للمعارضة، اكتفى بعبارات عائمة وخيارات مفتوحة، إما توسعة الهيئة لإنتاج قيادة معارضاتية جديدة، أو إعادة تشكيل وفد التفاوض بما يلائم التوجه الدولي في تمثيل منصتي القاهرة وموسكو.
ربما يجدر القول إن الخيارين المقدّمين من خلال البيان ينطلقان من منطق المعارضة الذي استمر في ارتكاب أخطائه الواحد تلو الآخر، بحيث تبقى الشخوص في مكانها، مع استدارة صغيرة تحقق “شراكة من دون مشاركة”، وبالتالي نبقى ندور في دائرة التعطيل نفسها، وفي التبرير وثبات الأقدار للمعارضة، في ظل تغير الأحوال للمواطنين السوريين من سيئ إلى أسوأ، ومن هدنة إلى ما دون التسوية في مراحل لاحقة. فليس من شأن توسيع الهيئة بمبدأ اللصق والرقع أن يغير في واقع معارضةٍ نسجت تفاصيل خيباتها المتلاحقة خلال سنوات من الضياع حول الهدف مرة، وعن الطريق إليه مرات أخرى، ولا إعادة تشكيل وفد التفاوض يشكل حلاً في ظل تعدد الرؤى، واختلاف درجات “المرونة” بين المنصات مع بعضها بعضاً، وبين المتناصين في المنصة ذاتها، ما يقودنا إلى السؤال عن المرونة نفسها التي يتحدث عنها المجتمع الدولي وبعض المعارضين، من دون تحديد ما تعنيه هذه المرونة؟ هل هي امتلاك حق التنازل عن الحق، أم هي كسر لإرادة السوريين الذين قدموا التضحيات، من أجل بناء دولة تحفظ حقوقهم مواطنين وقوميات، أم هي النزول من على شجرة اللاءات على سلم المناصب الموعودة، أم أنها تعني الامتثال لواقع جديد، فرضته الدول الحليفة للمعارضة، قبل أن تفرضه الدول المناصرة للنظام، أم أنه لا هذا وذاك، بل يعني وضع تصور لسورية جديدة بدستور جديد، نستطيع من خلاله وقف المجازر وتجارة الحرب، ومحاكمة كل المجرمين على جانبي الضفتين، من نظام ومليشياته، أو ما سمي زوراً فصائل معارضة يحكم أجندتها مطامع الدول الراعية لها؟
خيارات المعارضة بعد جملة التسويات التي أدارتها موسكو، شبه معدومة تقريباً، ما يفرض عليها اليوم ضرورة الفهم العميق للمصطلحات التي تتداولها، وتداولتها على مر السنوات الماضية، ووقفة نقدية شجاعة تعترف فيها بخطأ خياراتها، بدءاً من الانجرار وراء أجندات دولية وإقليمية، مروراً بتقييم العمل المسلح، من دون تجاوز حقائق من يتبع من، في عمل معارضاتي فيه السياسي والمسلح، وتمت فيه إزاحة العمل السياسي لمصلحة العمل المسلح، وتغييب الخطاب الإعلامي المتوازن لمصلحة خطاباتٍ طائفية ووظيفية، تخدم استمرار الصراع وتأجيجه، وصولاً إلى الانغلاق التام في شلل وكيانات تنطق بهوى من يمولها ويستضيفها، متنازلة عن حق السوريين في أن يكون لهم كيان سياسي يمثلهم، ولا يمثل عليهم.
ربما من شأن إدراك حجم المقدمات الخاطئة والمختطفة أن يجعل هذه المعارضات تقرّ بضرورة بناء نفسها من جديد، مرتكزة على رؤية وطنية تصنعها من خلال هدف الثورة الأساسي الذي انطلقت منه “الحرية” الذي يعني إنهاء الاستبداد، قبل أن تتطور هذه الثورة وتنزاح، وتعلن من خلال الاتفاقيات في أستانة، وما يسير في ركابها، هزيمة الكفاح السياسي أمام تفاهمات المسلحين من أجلهم وعلينا.
المصدر : العربي الجديد