لم ينجح لقاء جنيف ولا أستانة ولا حميميم بشأن سورية؛ فاخترع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مساراً جديداً هو مؤتمر سوتشي. ويُراد من هذا المؤتمر أن يجمع المعارضة السورية بكل أطيافها، إضافة إلى ممثلي النظام. هذا ما يحلم به بوتين قبل تجديد ولايته في مارس/ آذار المقبل.
أول فشل صادف سوتشي أنّه بديل عن مؤتمر حميميم الفاشل أيضاً، والثاني التراجع عن اسم مؤتمر شعوب سورية إلى مؤتمر الحوار الوطني، وثالث فشل هو رفض أقسام كبرى من المعارضة الذهاب إليه، والرابع رفض الأميريكيين والأوروبيين له. إذاً من حيث المبدأ هو مؤتمرٌ فاشلٌ، ويشكل تغيير الروس مواعيد انعقاده فشلاً إضافياً كذلك، وطبعاً يأتي تحديد موعده الجديد بالتزامن مع لقاء جنيف المقبل ليُفشله بالتأكيد.
لا يرغب الروس في قراءة الشرط العالمي جيداً، ويعتقدون بقدرتهم على صياغة العالم وفقاً لأوهامهم عن تراجع أميركا عالمياً، وعدم وجود طموح صيني للهيمنة العالمية البديلة. تخطئ روسيا الإمبريالية، والطامحة لنهب العالم بأساليب همجية واحتلالية، المرة تلو الأخرى، من إبخازيا إلى أوكرانيا إلى العلاقة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى تعاطيها الدولي الاستعلائي مع كل من تركيا وإيران وإسرائيل والدول العربية.
لم تتوقف الضغوط على المعارضة، لكنها أيضاً لم تتصاعد؛ فالعنجهية الروسية، ووهم الإشراف الوحيد على سورية تمنعان التسليم الإقليمي والدولي لها بذلك. الانتقام الروسي الذي يتكرّر على الغوطة، أخيرا، وفي كل مدينة سورية، كلما تشدّدت المعارضة، لا يفيد كثيراً في تغيير المعطيات التي يريد السوريون الوصول إليها. ففي أستانة، كذب الروس أخيراً بوعودهم عن إطلاق المعتقلين. وفي جنيف، رفضوا إجبار النظام على التفاوض. وفي مجلس الأمن الدولي، رفعوا تسعة فيتوات ضد مصالح الشعب السوري، وللحفاظ على النظام السوري.
لم يلتزم الروس باتفاقية خفض التوتر، ولا صانوا التوافقات مع الأميركان، وكذلك يتجاهلون المصالح الإسرائيلية؛ وبذلك يبتعد الروس عن بقية مصالح العالم في سورية. أيضاً لم يقرأ الروس استراتيجية أميركا في محاصرة إيران، وإعادتها إلى حدودها وإجبارها على وضع برنامجها الصاروخي الباليستي ضمن الاتفاقيات الدولية؛ تتلاعب روسيا بمصالحها في سورية أكثر مما يجب كما يبدو، ومحاولاتها حل المشكلات الدولية على حساب التوافق على الحل السياسي في سورية أمر خاطئ، حيث لا يوجد مبررٌ حقيقي لتأجيل الحل بنهاية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتقييد جبهة النصرة وبوجود مناطق خفض التوتر.
لا يقبل الأميركان أن تفرض روسيا شروطها الدولية عليهم، لا في سورية، ولا في أي مكان في العالم. ولهذا، تتزايد العقوبات على روسيا وتفشل المساعي الروسية في إيجاد معارضة سورية، تتوافق مع رؤيتهم في التجديد للنظام والانخراط فيه.
يقع على المعارضة التي تتعرض لضغوطٍ مستمرة رفض أيّة تغييرات في مواقفها، وليس من مصلحتها قبول منصة موسكو بشكل رئيسي، أو قبول أفرادٍ مستقلين غير معروفين جيداً، وكذلك يقع عليها فك الاحتكار عن المعارضة، وإشراكها بتحديد السياسات وأولويات التفاوض؛ فليس منطقياً أن يُحتكر قرار الشعب السوري والمعارضة بأيدي ثلة أشخاصٍ، كما قال إدوارد حشوة في بيان استقالته من لجنة التفاوض العليا أخيرا.
وتقول التسريبات المتعلقة بمؤتمر الرياض 2 للمعارضة السورية إن المطلوب منه إيجاد معارضة “عميلة” لموسكو، والتجديد للنظام. إن وجود شخصيات انتهازية في المعارضة يمكن أن يسمح بذلك، لكنه بالتأكيد سَيُواجَه برفضٍ سوريٍّ واسع، ولن يمرّر بأي حال، وبالتالي إن نجاح أيّ حلٍّ سياسيٍّ متعلقٌ بإجراء تغييرات كبرى تسمح بالبدء فيه، وإلّا فإن المفاوضات ستفشل بالتأكيد. وطبعاً مؤتمر سوتشي فاشل سلفاً، ولا مجال للتفكير فيه؛ والقضية التي على المعارضة التركيز عليها هي مؤتمر جنيف مجدّداً، ووفقاً لبنود جنيف 1 بشكل خاص.
سيعي السعوديون لاحقا أن مصالحهم تكمن في معارضةٍ سوريّة قوية. وسيعي الأتراك أنفسهم الأمر ذاته. وما زال الروس الذين فُتِحت لهم كل المنافذ “من المعارضة والأميركان والخليج بل وجزء من النظام يرغب بذلك” للانفكاك عن إيران، يناورون لعقد صفقةٍ تتعلق بقضايا دولية، وليس بسورية فقط. رفض الروس للتفسير الأميركي بخصوص القوات الأجنبية، وأن المقصود بها المليشيات المرتبطة بإيران، وكذا الدفاع عن وجود إيران بأنه شرعي، يدفع بمواقف متشدّدة إزاء الروس بالتأكيد.
إذاً يشكل رفض الضغوط التي تمارسها الدول على المعارضة السورية الأساس الذي سيُغير المعادلات الإقليمية والدولية إزاء سورية. ولا يمكن الوصول إلى حلٍّ سياسيٍّ من دون سوريين معارضين فاعلين، وتحديدا من الأوساط التي تستطيع مد شبكة علاقات واسعة مع المناطق الخارجة عن سيطرة روسيا وأميركا والسعودية وتركيا.
ربما تميل أوساط من المعارضة إلى التفاهم مع الروس، لكنها بذلك ستخسر تحالفات دولية مستجدة مرتبطة باستراتيجية حصار إيران. المعارضة معنية بفهم ما يحدث في سورية والإقليم؛ فهناك مصالح كبرى للدول الإقليمية ولأميركا، ومن دون تحقيقها ليس من حلٍّ سياسيٍّ قريب. أميركا التي فرضت سيطرتها على شرق سورية وشمالها لن تخرج منها، كما يصرح قادتها، وتركيا بدورها أيضاً تتمدّد على أراضٍ سورية كثيرة. ويمكن للتحالفات التي تعقدها مع روسيا أن تنهار أيضاً، وأن تتجدّد العلاقات مع الأميركان؛ فروسيا وعلى الرغم من كل براغماتيتها، تريد فرض سياسات على أميركا والدول الإقليمية، وهذا أمر خاطئ كليا.
تخطئُ السعودية إن استمرت في توتير الأجواء الخليجية، وتخطئُ إن مارست ضغطاً على المعارضة في الالتحاق بروسيا؛ فهذا يقوي الموقف الإيراني، وليس العكس، في سورية وفي اليمن أيضاً. وتتزامن المواقف الروسية المستجدة، ومنها أن الوجود الإيراني شرعي في سورية، مع خلافات روسية أميركية متصاعدة، ليس آخرها أن روسيا تعتبر الوجود الأميركي في سورية غير شرعيٍّ. وتصعّد هذه المواقف من الخلاف الروسي الأميركي، وبالتالي تصبح كل الدعوات إلى حلٍّ سياسيٍّ في سورية عديمة القيمة والأهمية.
المعارضة السورية، التي فرّطت كثيراً بأهداف الثورة، ربما ستسقط في مؤتمر الرياض، وتشكل هيئة تفاوض تأخذ بالرؤية الروسية للحل، لكنها بذلك تسقط بشكل كامل. فليس من حل سياسي بغياب توافقٍ أميركيٍّ روسي جديّ، وأسّه الآن إخراج إيران من سورية، وتحجيم وجودها في كل البلاد العربية. فهل تعي روسيا شروط الحل السياسي في سورية لمصلحتها؟ ربما لا.
المصدر : العربي الجديد