ليست فدوى سليمان ممثلة وامرأة مسرح ومناضلة مثالية فقط، إنها شاعرة أيضاً، بل أولاً وآخراً، شاعرة في ما كتبت وما عاشت وما حلمت وما عانت وواجهت. شاعرة في نضالها السياسي الفريد، ووعيها الثوري النقي، في إصرارها على الحياة والحلم والأمل حتى في أوج لحظات المرض الخبيث الذي أصابها في منفاها الفرنسي.
وقبل نحو عشرين يوماً كانت فدوى نجمة مهرجان «أصوات حية» الشعري في الجنوب الفرنسي بحماستها وشغفها ونضالها من أجل الثورة السورية. قاومت الشاعرة مرضها وقرأت قصائدها في المهرجان الفرنسي وتحدثت في لقاءاتها عن الثوار الحقيقيين والأنقياء وعن الثورة التي أجهضها الأصوليون والنظام الديكتاتوري والغرب المتواطئ. ولم يمض عشرون يوماً على انتهاء المهرجان حتى وافتها المنية. وكان المهرجان كرمها وأصدر لها ديواناً بالعربية والفرنسية عنوانه «في العتمة المبهرة» (دار المنار- باريس)، لكنّ الموت لم يمهلها كي تفرح به وما حمل من بوراق أمل في وسط الظلام.
فالعتمة التي وصفتها بـ «المبهرة» هي صنو «القمر» الساطع الذي استحضره عنوان ديوانها «كلما بلغ القمر» الذي صدر أيضاً بالعربية والفرنسية، في ترجمة بديعة للمسرحي اللبناني- الفرنسي نبيل الأظن (دار سوبراي). وكم استخدمت فدوى لعبة الثنائيات في شعرها لتعبر عن حال الصراع الذي طالما عاشته، داخلياً وواقعياً وتاريخياً… ففي مطلع ديوان «كلما بلغ القمر» تكتب في ما يشبه «الإهداء»: إلى الذي قتلني ذات زمان/ فقتلته ذات زمان»، وفي ختام القصيدة القصيرة هذه يحل رمز الضوء المبهر أيضاً فهي تقول: «سامحني وانظر في عيني التي سامحتك/ ولنمض/ معبر الضوء أمامنا». خلال منفاها الفرنسي برزت فدوى بصفتها شاعرة وشاركت في مهرجانات شعرية فرنسية مهمة مثل «ربيع الشعراء» وسوق الشعر»… وقدمت في مهرجان أفينيون المسرحي الشهير قراءة ممسرحة لنص درامي من تأليفها عنوانه «العبور».
لا أدري لماذا أغفلت المقالات التي كُتبت عن الراحلة فدوى سليمان وجه الشاعرة فيها وركزت على الممثلة والمناضلة. ربما لأن فدوى نفسها أصرت على إخفاء وجهها الشعري وراء وجه المناضلة فلم تكشفه علانية إلا في منفاها، مع أن الشعر كان من همومها الأولى كما تروي في أحد نصوصها. وتعترف بأن الشاعر محمود درويش كان أول من فتح عينيها على الشعر وقد حفظت له منذ مراهقتها قصائد، منها «جواز السفر» التي رددتها كثيراً.
لم تكن فدوى شاعرة مكثرة ولم يصدر لها سوى ديوانين («كلما بلغ القمر»، «في النعمة المبهرة») لم يوزعا في العالم العربي. لكنّ مواقع إلكترونية تناقلت قصائدها بالعربية وبترجمتها الفرنسية. وقد تكون لديها قصائد غير منشورة لو افترضنا أن المرض سمح لها بكتابتها. واللافت أنها لم تكتب شعراً ثورياً في المفهوم الرائج لهذا النوع الشعري بل كتبت مثلها مثل شعراء سوريين كثر يحتلون الآن المشهد الشعري العربي، قصائد مفعمة بالحنين والألم والفجيعة، لكنها لم تخلُ من النزعة اليومية والاحتجاج والاعتراض الوجودي وكذلك من الوعي التقني واللغوي المتقدم. تقول فدوى مثلاً في إحدى قصائدها الجميلة: «سكروا من خمرة الضوء وغابوا/ على لحن اصطفاق الأجنحة/ حملتهم اغصان الزيتون/ وخطّهم الغار شعراً/ على صفحات الريح/ نثرتهم الطواحين/ أقحواناً على ضفة العاصي/ وتعمد التاريخ في الفرات/ ودجلة شيخ شاهد/ نبت القمح من اجلهم في الشمال/ وغنى الياسمين في دمشق». واضح أن النبرة الشخصية والذاتية والصوت الجماعي يختلطان في شعر فدوى، وكذلك آلام الجسد والروح وآلام الآرض والجماعة: «في هذا النفق المظلم/ على القلب ان يبقى على القلب/ واليد في اليد/ والروح في الروح / والعين واحدة/ في هذا النفق المظلم…».
تكتب فدوى عن المنفى أجمل ما يمكن ان يُكتب، بألفة ووداعة وصوت خفيض، جاعلة منه حالا من الانتظار والامل ممزوجا بيأس وجودي. تقول في مطلع نص نثري لها: «منذ اللحظة التي تطأ فيها قدماك ارض اللجوء، تتلاشى ملامحك، تفقد هويتك، ، ولا تتعرف الى اسمك ولا عمرك… يختفي صوتك وانت تسمع لغة غير لغتك ، ينطق بها كل شيء حولك. ترى حروفك تسقط امامك ولا قدرة لك على لملمتها. تشعر انك بلا ذاكرة ، خارج الزمان والمكان، شبح لا مرئي…». مأساة النفي هذه المتجلية في هذا النص النثري تزداد شفافية وأسى في قصائد عدة تكتبها فدوى بروحها وعصبها وغنائيتها العذبة، كأن تقول: «من أنا؟ / بعد أن ظل وجهي/ واسمي / وورد طفولتي/ لغتي وصوتي/ وذاكرتي هناك». وفي قصيدة أخرى تقول: «افتح عينيّ/ بداية يوم جديد/ يا له من حزن عظيم».
أما نصها الدرامي الجميل «العبور» فهو يتمثل مأساة النزوح التي عاشها الشعب السوري الهارب من وحشية النظام والأصوليين، ويتوزعه صوت فتاة وصوت آخر تتبدل نبرته. وشاءت فدوى هذا الحوار التراجيدي يدور في ظل جدارية هي عبارة عن شاشة تعرض عليها بالتتالي صوراً تظهر معاناة البشرية في الحروب والمآسي: الحرب الأولى والثانية، هتلر وموسوليني وستالين، فيتنام، مجازر الأرمن وصبرا وشاتيلا وجنين في فلسطين وحلبجة في العراق، هيروشيما، ناكازاكي… إلى ثورة البوعزيزي في تونس. كأن فدوى شاءت أن تضع دكتاتورية النظام السوري وعنف الأصوليين في سياقهما التاريخي. لكن النص الدرامي لم يخل من لحظات حنين وإشراق تبدت في شوق الفتاة للعودة إلى دمشق، دمشق الحب والسلام والغار والياسمين… لكن الصوت الآخر كان صوت المتسلط القاتل.
فدوى سليمان شاعرة «العبور» ، شاعرة المنفى، لكنها شاعرة سورية الألم والأمل، سورية الثورة التي لن يتمكن نظام دكتاتوري ولا جماعات إرهابية من مصادرتها.
المصدر : الحياة