طرح الشاعر السوري منذر مصري، قبل أيام، فكرةً عن مبادرة لحل سياسي مفترض من شأنه أن ينهي المأساة السورية المفتوحة، واستبق ما يمكن أن تتلقاه فكرته من اعتراضات، صاغها بأسلوب يجعلها غير ذات أهمية، بالقياس إلى فكرته.
والحال أن فكرة المبادرة، كما طرحها شاعرنا الجميل، مفعمة بأحلام وردية بقدر امتلائها بالمغالطات. ولو لم يكن منذر مصري هو صاحب الفكرة، لربما كانت غير جديرة بالمناقشة.
ملخص ما طرحه مصري هو أن يتوجه وفد من خمسة عشر شخصاً من «شخصيات وطنية معروفة بينهم معارضون» ينتمون إلى مختلف أطر المعارضة في الخارج والداخل، إلى دمشق، على متن طائرة واحدة تحط في مطار دمشق الدولي، وتضع النظام أمام تحدي التفاوض معهم دون شروط مسبقة، وبلا أي جهات وسيطة، للوصول إلى حل سياسي «سوري ـ سوري» ينقذ البلد من الخراب.
ويقول مصري إن هذه المبادرة ستضع النظام أمام «مسؤوليته الوطنية» التي «لم يبطل يوماً إدعاءها»، وفي مواجهة سياسية مباشرة مع من دأب على إنكار وجودهم.
إلى أي حد يمكن أخذ فكرة مصري عن المبادرة على محمل الجد؟
لندع جانباً كيف يمكن تشكيل وفد من 15 شخصية وطنية «بينهم معارضون سياسيون». أي أن قسماً منهم فقط معارضون سياسيون، علماً بأنهم سيتشكلون، على افتراض مصري، من جميع الأطر المعارضة: الهيئة العليا للمفاوضات، والائتلاف الوطني، ومنصتا موسكو والقاهرة، وهيئة التنسيق، ومعارضات الداخل والخارج، وكل من يقبل بالمبادرة! فإذا تخلينا عن «كل من يقبل» هذه، واقتصرنا على ممثل واحد لكل من الأطر المذكورة، أصبح لدينا 6 أشخاص أو 7 معارضين سياسيين، من أصل 15، في حين أن البقية هم «شخصيات وطنية» لا نعرف ما هو معيار وطنيتها.
يعرف صديقنا الشاعر كيف انتهى ما سمي بـ»مؤتمر الحوار الوطني» الذي عقد برئاسة فاروق الشرع، في يوليو/ تموز 2011، وكيف تعاطى النظام مع المبادرة العربية، ثم مبادرة كوفي أنان الدولية، وبيان جنيف 2012، وهي على التسلسل سورية، ثم عربية، ثم دولية. وكيف اعتقل عبد العزيز الخير من مطار دمشق، وما زال مجهول المصير إلى اليوم، وهو الموصوف بالمعارض الوطني الداخلي. وكل ذلك في فترات كان فيها النظام في أضعف حالاته ميدانياً وسياسياً. فما الذي يمكن توقعه منه وهو يرى نفسه، هذه الأيام، في حالة «انتصار» بفضل حماته الروس والإيرانيين؟ على أي حال لم يترك لنا النظام فرصةً لطرح تكهنات بصدد مسالكه المتوقعة في المرحلة المقبلة. ففي خطابه أمام «مؤتمر وزارة الخارجية» كان رأس النظام واضحاً في رأيه بكل من عارض حكمه. لم ينكر وجودهم، كما يقول المصري، بل اعتبرهم مجرد عملاء وخونة يستحقون العقاب، وقد بلغ بهم «التلوث» مدىً لا يمكن معه إصلاحهم!
فما بال صديقنا الشاعر يريد للنظام أن «يفاوضهم». إن أقصى ما قد يطمح إليه أولئك «المعارضون العملاء» في نظر رأس النظام الكيماوي، هو أن يقبل هذا بإصلاحهم، ولن يقبل لأنهم غير قابلين، في رأيه، للإصلاح. وهنا لا يبقى من حل لمشكلتهم إلا الإبادة.
«المسؤولية الوطنية» أخي منذر؟ في نظر المعارضة لا يملك النظام أياً من تلك المسؤولية، بل هو نظام ارتهن لقوى أجنبية ورهن لها سوريا ومستقبلها بمعاهدات مجحفة (مع روسيا مثلاً) مقابل الإبقاء عليه في السلطة. أما في خطاب النظام، الذي تعكسه تصريحات مسؤوليه ووسائل إعلامه، فالمسؤولية الوطنية تقتضي إبادة المعارضة، مسلحة كانت أم سلمية، إسلامية أو علمانية، مع إبادة «الحواضن الشعبية للإرهاب» التي قدرها رأس النظام، في أحد خطاباته، بالملايين، وصولاً إلى «المجتمع المتجانس»، مجتمع العبيد والروبوتات المبرمجة.
فصديقنا الشاعر يعرف أن اللغة كانت إحدى أوائل شهيدات الصراع في سوريا. يستخدم النظام كلمات كالوطن والشعب والإسلام والمصالحات وغيرها بمعان مختلفة عما ألفه مستخدمو العربية. فمن قال إن المسؤولية الوطنية مفهوم قد يجتمع عليه النظام مع غيره، دع عنك المعارضة، بل مع مطلق غيره؟
واقع الحال هو أن المعارضة انساقت في مسارات تفاوضية عقيمة، في جنيف وآستانة، قدمت فيها تنازلات لا يمكن القبول بها، وتتعرض لضغوط إقليمية ودولية كبيرة لتقديم المزيد منها. وكل ذلك بلا أي نتيجة حتى على مستوى القضايا الإنسانية كإطلاق سراح مئات آلاف المعتقلين الذين يبادون بصورة منهجية، وتحرق جثثهم في أفران صنعت لهذه الغاية، أو إدخال الغذاء والدواء إلى المناطق المحاصرة تحت شعار «الجوع حتى الركوع» المكتوب على الجدران. بدلاً من ذلك يواصل النظام قصفه لمناطق مكتظة بالمدنيين، على رغم شمولها بالمخطط الروسي المسمى بـ»خفض التصعيد»، وتهجيره للسكان، وغيرها من الأعمال الموصوفة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
في حين يفترض أي منطق سليم أن يقوم النظام بتقديم المبادرات والتنازلات، وليس المعارضة، ما دام يدعي تمثيله للدولة، والدولة تعريفاً كيان عمومي فوق التباينات والمصالح والصراعات الجزئية. ويمكن القول، بطريقة معكوسة، إنه ما دام النظام يمتنع عن تقديم مبادرات من أجل الحل، ولا يبدي أي استعداد لتقديم أدنى تنازل من أجل المصلحة العامة، فهو إذن لا يمثل الدولة، بل مجرد طرف في صراع داخلي، يتطلب التفاوض معه طرفاً ثالثاً وسيطاً، وتكون نتائجه انعكاساً لموازين القوى، وليس «المسؤولية الوطنية» أو ما شابه ذلك من كلمات بلا مضمون.
والحال أن النظام يقوم بمبادرات، بعيداً عن الإعلام: فهو يرسل أزلامه إلى إسطنبول وغيرها من منافي السوريين، لإقناع «معارضين» أفراد من ضعاف النفوس بالعودة إلى «حضن الوطن». حتى في هذه «المبادرات» الوسخة يرد النظام على استسلام أولئك الأفراد بالغدر، كحالة بسام الملك الذي أعلن التوبة ونيته بالعودة إلى حضن النظام. لكن هذا الأخير لم يقبل بتوبته، فاضطر للذهاب إلى مصر مع عاره.
ولماذا الإصرار على مطار دمشق الدولي، أخي منذر، في حين تنشط قاعدة حميميم الروسية في مفاوضات جارية على قدم وساق من أجل «حقن الدماء»؟ بينما المطار المذكور عاطل عن العمل منذ سنوات!!
المصدر : القدس العربي