أثناء اجتماع زعماء عالميين في لندن أمس ضمن مؤتمر لبحث الأزمة الإنسانية السورية كان عشرات آلاف اللاجئين الجدد يهربون من بيوتهم وقراهم وبلداتهم في ريفي اللاذقية وحلب إثر هجمات النظام السوري والغارات الجوية الروسية، وتزداد المناطق المحاصرة والمجوّعة، وتتداول الصور التي اعتاد العالم عليها للأنقاض المتساقطة على الأطفال والأشلاء المقطعة للمدنيين، وهذه، باختصار، عناصر الوصفة التي يطبقها الروس ونظام دمشق لإحراز «تقدم»، على طريقتهم، في مفاوضات جنيف مع المعارضة السورية.
هذه المفاوضات ليست غير إعادة، بالبطيء، وعلى مسرح العالم، لمفاوضات النظام المحلية مع المدن والأحياء الثائرة المجوّعة بحيث يتم إدخال بعض المساعدات القليلة مقابل رفع علم النظام (نظير حكومة «الوحدة الوطنية»)، أو تسليم الأسلحة، أو خروج «المسلحين»، والتي هي معادلات الركوع المذلّ والتوبة عن الثورة، أو يتم فقط «تمثيل» تسليم الأغذية لتصوير ذلك على قنوات النظام السوري، وتسويق ذلك في وسائل الإعلام العالمية، قبل أن يبدأ إطلاق النار على الجوعى المتجمهرين، كما حصل في بلدة معضمية الشام، وهو ما رصده تقرير لـ»القدس العربي» في عدد اليوم.
خلال ذلك كله كانت وسائل التواصل الاجتماعي تتناقل صور حفلة أقيمت يوم الجمعة الماضي في الهواء الطلق للضباط والجنود الروس في قاعدة حميميم العسكرية في اللاذقية، تظهر فيه فرقة روك ومغنين، فيما يدير الجنود ظهورهم للمشاهدين، قبل أن يجهّزوا مدافعهم وصواريخهم وطائراتهم لقصف الأرض والشعب السوريين، في مفارقة فظيعة بين ما يعيشه السوريون من مأساة تتناقض مع سعادة الروس الغامرة بانتصاراتهم عليهم.
في اليوم نفسه لعقد مؤتمر المانحين هبطت ثلاث طائرات شحن مروحية أمريكية تحمل أسلحة خفيفة وذخيرة قادمة من كردستان العراق لتسليمها، كما يبدو، لقوات حزب «الاتحاد الديمقراطي»، والتي سبقتها زيارة بريت ماكورك، المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي الذي اجتمع مع «وحدات الحماية الشعبية» الكردية، وسبقت الزيارة تصريحات لرئيس كردستان العراق، مسعود البارزاني، يقول فيها إن الوقت قد حان لاستفتاء على تأسيس الدولة الكردية. المفارقة الجزئية هنا هي أن الأمريكيين يستطيعون نقل الأسلحة والذخائر والمساعدات للأكراد ولكنهم لا يستطيعون فعل ذلك لبقية السوريين، أو يستطيعون قصف أي منطقة في سوريا ولكنهم لا يستطيعون إنزال المساعدات!
كان لافتا قبل أيّام تصريح وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند الذي قال فيه إن روسيا تخطط لدويلة علوية في الساحل السوري، وكان المسؤولون الأتراك قد رددوا هذه الفكرة عدة مرّات من قبل غير أنها لم تلق صدى كبيراً، ففكرة الدولة العلوية تتناسب مع حالة ضعف النظام السوري وانحساره عن دمشق، والواضح أن قبضة النظام تقوى على مجموع البلد وهو يقترب حثيثا من فتح الطريق نحو تركيا والأردن، كما أن الروس انتقلوا إلى المنطقة الشرقية وباشروا عملياتهم فيها.
لكن التمحيص في قضية الدولة العلوية يظهر أن التناقض الظاهري بين الخطة للسيطرة على سوريا كاملة، وليس «سوريا المفيدة» فحسب، لا يتناقض مع «الدولة العلوية» المزعومة، فالأخيرة ستكون ورقة روسيا الكبرى التي قد تلجأ إليها في حال انقلبت السيناريوهات وتغيّرت، بحيث تصبح المجال الحيوي المتماسك والتابع عملياً لروسيا في المنطقة العربية، والنظير لـ»الدولة اليهودية» التي تدور في فلك أمريكا والغرب، ومن أجل ذلك يتم حالياً إفراغ أكثر من ثلاثين قرية من قاطنيها السنّة، وترحيلهم إلى تركيا، التي ستكون في خطر وجوديّ كبير.
من جهة أخرى نشهد ما يشبه الاتفاق المضمر الروسي الأمريكي على دعم حزب «الاتحاد الديمقراطي» وقواته المسماة «وحدات الحماية»، وبذلك ينخلق، موضوعياً، الأساس الصلب لإمكانية نشوء الدولة الكردية، التي تتقّنع ببعض الميليشيات العشائرية تحت مسمى قوات «سوريا الديمقراطية»، ولكنّها، في صميمها، ستكون شبيهة بشقيقتها «الدولة العلوية» في دورانها التامّ في الفلك الأمريكي، وفي وقوفها بصلابة أمام تركيّا.
قد يكون جديراً بالذكر، أو لا يكون، أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، صرح قبل فترة قصيرة أن الظروف التي رسمت بموجبها حدود مناطق الشرق الأوسط تختلف عن الظروف الحالية، وأن اتفاقية سايكس بيكو قد انتهت صلاحيتها، وأنه حان الوقت «ليقدم المجتمع الدولي كل المساعدات الممكنة لقوات البيشمركه».
حبل السرّة بين فكرتي الدولتين العلوية والكردية هو نفسه، وهو السبب الذي تم لأجله إجهاض الثورة السورية وتحويلها إلى «أزمة إنسانية».
المصدر : القدس العربي