على مدار يومين، شاركت في مؤتمر حول “الدين والدولة”، نظمّته المنظمة العربية للقانون الدستوري، ومقرّها تونس، وكلية الحقوق في جامعة هارفارد. شارك في المؤتمر عدد كبير من الباحثين العرب والأجانب، وقدموا أوراقا ومداخلات مهمة، تتمحور حول العلاقة بين الدين والدولة من منظور قانوني ودستوري. وعلى مدار اليومين، جرى استعراض أوراق مثيرة للتأمل والتفكير حول قضايا ملحّة، بعضها إشكالي، منها وضع الشريعة في الدساتير العربية والإسلامية، وحقوق الأقليات والحرية الدينية في المجتمعات العربية والإسلامية، والسياسات الدينية للدولة العربية، وغيرها من القضايا. ما لفت نظري هو ذلك الجدل المتجدّد حول طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي في العالمين العربي والإسلامي، وكيف يمكن إدارة العلاقة بينهما.
ويبدو لافتاً أن قضية العلاقة بين الدين والدولة، علي أهميتها بذاتها، إلا أنها تكتسب زخماً خاصاً في أوقات الأزمات والانكسارات، بحيث يبدو الرجوع إلى مناقشتها، كما لو كان هروباً من هذه الأزمات، أو محاولة لملء فراغٍ سياسي، أنتجته السلطوية العربية بقمعها وتفريغها المجال العام من النقاش المجتمعي الأوسع حول قضايا الحقوق والحريات، ومشاركة الشعوب في حكم نفسها. وهي القضية التي لم يتوقف الجدل حولها، منذ رحل الاستعمار الأجنبي عن بلاد العرب قبل قرن، وسقوط الدولة العثمانية التي نظمت العلاقة بين الأمرين من خلالها تجسيدها في أطر قانونية وتشريعية واجتماعية، جرى قبولها والعمل بها قروناً. وذلك حتى فجّر كتاب القاضي الشيخ علي عبد الرازق، “الإسلام وأصول الحكم”، المسألة، وألقى بقنبلته المعروفة حول فصل الديني عن الزمني في موضوع الخلافة، بل ورفع القدسية الدينية عن الأخيرة، واعتبارها مجرّد “واقعة تاريخية”، وليست نظاماً دينياً، كما كان يعتقد مسلمون كثيرون آنذاك.
والحقيقة، القول إن العلاقة بين الدين والدولة هي أصل المشكلات في العالم العربي لا يعكس فقط مبالغة ومغالطة كبيرة لدى بعضهم، وإنما يطمس أيضا كثيراً من الواقع البائس الذي تعيشه المجتمعات العربية والإسلامية. فالنص أو عدم النص على اعتبار الإسلام الدين الرسمي للدولة، كما الحال في معظم الدساتير العربية والإسلامية، لن يغير من الواقع شيئا، ليس لعدم أهمية الأمر، وإنما لعدم اكتراث الأنظمة العربية بالمسألة برّمتها، بل الأكثر من ذلك، لا تفتأ هذه الأنظمة توظف مثل هذا النص، من أجل تحقيق مصالحها الخاصة، وفي مقدمتها التحكم في المجال الديني، وتحديد قوانينه وإدراته، من أجل ضمان الشرعية، وكسب التنافس مع غيرها من الحركات الدينية. كما أن النص على المسألة لم يردع هذه الدولة عن ممارسة كل أنواع السلطوية، والبطش بخصومها ومعارضيها، على عكس ما ينص عليه الدين من قبول الاختلاف واحترام الآخر، وقدسية النفس البشرية.
صحيح أن ثمة حاجة لتأطير العلاقة بين الدين والدولة، ليس من خلال إخضاع أحدهما للآخر كما يعتقد بعضهم، ولكن الصحيح أيضا هو تأطير العلاقة بين الدولة والمواطن، وبين الحاكم والشعب، وبين المجتمع ونفسه في ضوء منظومة القيم الإنسانية التي مرجعها الدين والأخلاق، كالحرية والعدالة والمواطنة والتسامح والتعدّدية. وهي قيم كفيلة بتحويل العلاقة الصراعية بين الدين ومن يدّعي تمثيله من قوى وحركات وتيارات، والدولة ومن يدّعي تمثيلها من سلطة وأجهزة ومؤسسات. فعلى مدار القرن الماضي، كان الجدل حول هذه المسألة بمثابة “قميص عثمان” الذي تستخدمه كل القوى السياسية والدينية في صراعها مع بعضها، من أجل تحقيق شرعية وقبول لدى مناصريها.
انتهى المؤتمر بعد يومين من النقاش الحيوي والجاد، وقد خرجت بقناعة مهمة أن العلاقة بين الدين والدولة ستظل محل جدل طويل، ما دامت هذه الدولة قاهرة ومستبدة ورافضة أية شراكة من مجتمعها في إدارة شؤونه الخاصة، ومنها الدين.
المصدر : العربي الجديد