كان واضحا منذ بعض الوقت أن الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية وعلى سلفه تنظيم القاعدة ليست الاستعراض الوحيد في منطقة الشرق الأوسط، بل لقد كانت الحرب على الإرهاب في معظم الوقت حدثا ثانويا.
كان من شأن محاولة تركيع قطر عبر إغلاق حدودها وفرض حصار تام عليها أن سلطت الضوء على القوى الحقيقة، التي تتنافس على النفوذ في المنطقة في فترة ما بعد العالم الغربي التي نعيش فيه اليوم.
هناك ثلاث قوى إقليمية تتسابق على السيطرة.
القوة الأولى تتزعمها إيران – واللاعبون الذين ينضوون ضمنها منهم دول، مثل العراق وسوريا، ومنهم جماعات مثل المليشيات الشيعية في العراق وحزب الله والحوثيين.
والقوة الثانية هي النظام القديم المتمثل بالملكيات السلطوية في منطقة الخليج: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، وينضم إليها كل من الأردن ومصر.
والكتلة الثالثة تقودها تركيا وقطر، ومعهما جماعة الإخوان المسلمين والقوى الفاعلة في الربيع العربي.
في هذا الصراع الثلاثي، يساهم حلفاء أمريكا في تقويض استقرار النظام الإقليمي بالقدر ذاته الذي يساهم فيه أعداؤها، ولا أدل على ذلك من الحملة التي شنت على قطر.
أخطأت الحسبة المملكة العربية السعودية؛ إذ سعت لفرض إرادتها على دولة قطر الصغيرة، لأنها بمحاولتها تلك خلخلت النظام الإقليمي الذي اعتمدت عليه في التصدي لنفوذ إيران في مختلف البلدان المحيطة بالمملكة.
لو أردنا أن نعبر عن ذلك بصيغة أخرى، يمكن أن نقول إنه إذا كانت الحرب الأهلية السورية التي تدعمها إيران ألفت بين السعوديين والأتراك، فإن الصراع مع قطر سيفعل العكس تماما. بل ما يمكن أن يحدث في أرض الواقع هو أن هذا الصراع من شأنه أن يؤسس لقضية مشتركة بين إيران وتركيا وقوى الإسلام السياسي السنية، رغم ما يبدو عليه هذا الأمر من غرابة.
لن تحتضن هاتان القوتان نفسيهما هكذا بشكل طبيعي وتلقائي، وإنما يمكن أن تتقاربا وتتآلفا؛ بسبب رعونة وقصر نظر السياسات التي تنتهجها المملكة العربية السعودية. وفعلا، كان وزير الخارجية الإيراني أمس الأربعاء في زيارة إلى أنقرة ( لبحث الأزمة الخليجية التي افتعلتها السعودية والإمارات مع قطر )،
البنتاغون يناقض تغريدات ترامب
طرأ عنصران غيرا من قواعد اللعبة، وأثرا على مسار الحملة السعودية ضد قطر، وهما قرار البرلمان التركي تسريع إصدار تشريع يسمح للقوات التركية بالانتشار في قاعدة داخل قطر، وبيان قوات الحرس الثوري الإيراني الذي اتهم المملكة العربية السعودية بالمسؤولية عن الهجوم على البرلمان الإيراني وعلى مرقد آية الله الخميني، ما أسفر عن مقتل 12 شخصا.
يؤدي ذلك إلى عزل المملكة العربية السعودية، التي بإمكانها أن تتنمر على دولة صغيرة، لكنها لا تملك الدفاع عن نفسها دون أن تحظى بكميات ضخمة من الدعم العسكري الخارجي.
ومهما غرد به القائد الأعلى للقوات الأمريكية، فإن قوات الولايات المتحدة الأمريكية المنتشرة في الخليج تسعى جاهدة إلى تجنب تقديم مثل هذا الدعم، ولعل في هذا تفسير للتضارب في التصريحات الواردة من البيت الأبيض، وتلك الواردة من البنتاغون حول قطر خلال هذا الأسبوع.
ما أن أعلن عن إغلاق الحدود البرية بين قطر والمملكة العربية السعودية فجر يوم الخامس من يونيو/ حزيران، حتى أصدر البنتاغون بيانا أشاد فيه بقطر؛ “لالتزامها الثابت بأمن المنطقة”.
وذكر البيان قاعدة العديد بالاسم، وهي القاعدة المتقدمة للقيادة المركزية لسلاح الجو الأمريكي، قائلا إن “جميع الرحلات مستمرة كما هو مخطط لها”. ويذكر أن القاعدة تؤوي ما يزيد على عشرة آلاف عسكري.
ثم جاءت تغريدات ترامب، والتي ادعى فيها أنه صاحب فكرة التحركات غير الاعتيادية ضد قطر، وذلك من خلال قوله إنها جاءت ثمرة للخطاب الذي ألقاه أمام خمسين من زعماء العرب والمسلمين. ولكن تلا ذلك بيان ثان صادر عن البنتاغون يجدد الإشادة بقطر لاستضافتها القوات الأمريكية.
وانضمت أوروبا إلى البنتاغون، أو على الأقل وزير خارجية أهم دولة في أوروبا، ألمانيا، سيغمار غابرييل الذي قال: “من الواضح أن المقصود هو عزل قطر عزلا تاما تقريبا وتهديدها وجوديا. مثل هذه المعالجة الترامبية بالغة الخطورة في منطقة تحيط بها الأزمات من كل مكان.”
وبعد القرار التركي مباشرة، تناول ترامب الهاتف واتصل بأمير قطر عارضا عليه الوساطة، إذ يبدو أن الرسالة التي وجهها إليه القادة العسكريون في بلاده وصلته بعد 24 ساعة من تغريداته.
حسابات خاطئة
لقد قضمت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة أكثر مما بإمكانهما مضغه.
كانت أول حسبة خاطئة هي الثقة بكلام ترامب، فحينما تشترى منتجا من منتجات ترامب يجدر بك أن تكون على وعي بالمضاعفات الجانبية، وأحدها هو ذلك الكم الهائل من الامتعاض والكراهية والمقاومة التي ولدها ترامب داخل بلاده.
وهو كم ليس بالقليل حينما تبدأ في إحصاء الجهات الساخطة على ترامب – المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)، والبنتاغون (وزارة الدفاع)، ووزارة الخارجية، وأعضاء مجلس الشيوخ من كل ألوان الطيف، وكذلك القضاة. هؤلاء ليسوا فقط دولة أمريكا العميقة، ولكن حتى لو اقتصر الأمر عليهم لكفى.
ثم إن هناك سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة، الذي كثيرا ما يتصدر نشرات الأخبار وعناوين الصحف، والذي ارتكب خطأ جسيما حينما ظن أنه كما أطعم وزير الدفاع السابق روبرت غيتس من يده فإنه يمكن أن يفعل الشيء ذاته مع بقية مسؤولي وزارة الدفاع.
وكان سفير روسيا سيرجي كيسلياك، الملقب الآن بالدبلوماسي الأخطر في واشنطن، قد خر على الأرض من عل؛ بسبب سلوكه المتعجرف هو الآخر. مشكلة جميع هؤلاء السفراء أنهم يخلطون بين نجاحاتهم في نشاطات اللوبي من جهة وصناعة السياسة الخارجية من جهة أخرى، فشتان بين الأمرين.
وكانت حسبتهم الخاطئة الثانية هي افتراض أنه نظرا لأن قطر صغيرة، فلن تهب أي دولة أكبر منها لنجدتها. يذكر أنه يوجد لدى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة استثمارات ضخمة في تركيا، ومنها استثمار قامت به أبو ظبي بعد محاولتها الإطاحة برجب طيب أردوغان في انقلاب عسكري. ظن البلدان أن بإمكانهما أن يشتريا تركيا.
إلا أن العكس تماما هو الذي حصل، حيث أدرك أردوغان إنه إذا جرى سحق قطر فلن يبقى في ذلك المعسكر غيره واقفا.
وأما الحسبة الخاطئة الثالثة، فكانت كشفهما عن حقيقة ما يريدانه من قطر، وهو لا يتعلق أبدا بدعم الإرهاب ولا بالتقارب مع إيران. بل إن الإماراتيين الذين يشكلون جزءا من التحالف الذي يتهم قطر بالانحياز إلى طهران لديهم تجارة عظيمة مع إيران لا تخفى على أحد.
أما المطالب الفعلية التي قدمت إلى أمير الكويت، الذي يقوم بدور الوساطة، فهي إغلاق قناة الجزيرة، ووقف التمويل عن العربي الجديد وعن القدس العربي وعن النسخة العربية من صحيفة هافنغتون بوست، وطرد المفكر العربي عزمي بشارة.
تلك هي وسائل الإعلام التي تنشر باللغة العربية الأخبار والقصص التي لا يرغب هؤلاء الدكتاتوريون العرب أن تصل إلى مواطنيهم. لم يقتنعوا بكتم وسائل إعلامهم هم ولجمها، بل يريدون أن يغلقوا كافة وسائل الإعلام التي تكشف عن الحقائق التي لا يناسبهم نشرها على الملأ، خاصة تلك التي تتعلق بالأنظمة المستبدة الرائشة والمرتشية والفاسدة أينما وجدت حول العالم.
إسرائيل تنضم إلى الجوقة التعيسة
يرد اسم حماس والإخوان المسلمين في المطلب السابع في القائمة. يعتبر إيراد اسم حماس في هذه القائمة حسبة خاطئة أخرى؛ لأنه وبغض النظر عما تظنه الولايات المتحدة الأمريكية وعن موقفها تجاه هذه الحركة الفلسطينية، ما من شك في أنها تتمتع بشعبية كبيرة في منطقة الخليج.
وهنا تنضم إسرائيل إلى الجوقة التعيسة، فحسبما تكشف رسائل الإيميل التي تعود إلى العتيبة، والتي اخترقها الهاكرز، يتصرف الإماراتيون والمسؤولون في حكومة نتنياهو كاللصوص.
ما من شك في أن رئيس الوزراء الإسرائيلي محق في اعتقاده بأنه يحظى بمساندة الدول العربية الكبيرة في جهوده لإعاقة قيام دولة فلسطينية مستقلة؛ حيث إن ذلك هو آخر ما يريده حكام مصر والأردن والإمارات والسعودية التي تحرص حرصا شديدا على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لدرجة أن معلقا سعوديا وافق على إجراء مقابلة (مباشرة من جدة) مع القناة الإسرائيلية الثانية كانت الأولى من نوعها.
ولعل في ما كتبه الشاعر المصري الفلسطيني تميم البرغوتي على صفحته في “فيسبوك” ما يعبر عن ذلك بشكل صادق، حيث قال:
“في الذكرى الخمسين لاحتلال إسرائيل القدس، يتشكل حلف مصري سعودي إماراتي بحريني إسرائيلي، ويفرض حصارا بريا وجويا على بلد عربي، لا لشيء إلا لتأييده المقاومة الفلسطينية واللبنانية والثورات العربية في العقدين الماضيين، لا سيما الثورة المصرية التي أطاحت بحليف إسرائيل وهددت سلطة عسكر كمب ديفيد في القاهرة. إنهم لا يعاقبون الدوحة على سوريا وليبيا واليمن والقاعدة الأمريكية، بل يعاقبونها على شهادة الجزيرة في حروب العراق ولبنان وغزة ودعم المقاومة الفلسطينية في 2009 و20012 و2014، والمقاومة اللبنانية في 2000 و2006، ويعاقبونها على سقوط مبارك في 2011. عسكري مفلس وخائف، ومصاب بعقدة ماكبث، يغسل الدم القديم عن يديه بالدم الجديد، وفتى يستعجل الْمُلْك طامع في تخطي بن عمه للعرش بأي ثمن، اختارا الخامس من حزيران تحديدا ليعلنا، مرة أخرى، عن ضم بلديهما للعمق الاستراتيجي الإسرائيلي.”
ما هي الحسبة الخاطئة الأخيرة؟ قطر ليست غزة. فقطر لديها أصدقاء، وهؤلاء لديهم جيوش جرارة، وهي رغم صغر حجمها -تعداد سكانها أقل من عدد سكان هيوستن- إلا أن لديها صندوق ثروة سياديا تقدر قيمته بما لا يقل عن 335 مليار دولار. فهي أكبر منتج للغاز الطبيعي في الشرق الأوسط، ولديها علاقة مع شركة إكسون. والسعوديون والإماراتيون ليسوا الوحيدين الذين يمارسون لعبة اللوبي.
حتى غزة تمكنت من البقاء رغم الحصار.
المصدر : ميدل إيست