لم تحرّر حركة فتح فلسطين، ولا غضبَ عليها ولا عتب، وإذ تحيي احتفالاتٍ سنوية في أعياد ذكرى انطلاقتها فذلك محمودٌ، لا سيما وأنه يُؤتى، في هذه المناسبات، على “فتح” نفسها، مبادئَ بعيدة وتضحياتٍ مؤكدةً ومناقب أولى، وقد جاءت احتفالات وتظاهرات على ذلك، مطلع يناير/كانون الثاني الجاري، في الذكرى الخمسين لتلك الانطلاقة التي يحسُن ألا يُنسى أنها كانت لتحرير الأراضي المحتلة في 1948. ومما يمكن سوقُه، في هذا اليوبيل الذهبي، أن الفلسطينيين لم يعودوا يطلبون من “فتح” غير التخفّف من العنترة إيّاها، والتقليل، ما أمكن، من النفعية وشهوة السلطة، وحداً أدنى من المصداقية في الخطاب والممارسة. ولأن احتفالاً بالغ الشذوذ جرى، بمناسبة هذا اليوبيل، في دمشق، وفي أجواء تبعث على الحنق والدهشة معاً، فإن مطلب الفلسطينيين من القائمين على الحركة الوطنية الرائدة شيئاً من الحياء يُصبح في محله تماماً، بل وشديد الإلحاح.
مسؤولون في “فتح”، أحدهم مدير الدائرة السياسية في منظمة التحرير (ماذا تفعل هذه الدائرة بالضبط؟)، وبمعيّتهم حكوميون سوريون، أحدهم نائب وزير الخارجية، فيصل المقداد، يلتمّون حول قالب جاتو عريض، تغطّى بعلم فلسطين من الكريما، يقطع القالب أحدهم بسكين، ثم يصفقون، ولا بد أن بعضهم قالوا كلاماً في المناسبة، لم نقع عليه، ولا فضول لدينا لمعرفته، وإنْ نحدس أنه جاء على (دعم القيادة السورية كفاح الشعب الفلسطيني!)، لا سيما وأن صور بشار الأسد ومحمود عباس وياسر عرفات ظاهرة خلف هذا الجمع. أول أوجه الشذوذ المستهجن في الحفل الغريب أنَّ لا عاصمة في العالم شهدت مثله، فكل الاحتفالات، في فلسطين وخارجها، بمناسبة عيد “فتح”، كانت شعبية في مسيرات وتظاهرات خطابية. والأهم من هذا الأمر (الإجرائي؟)، هذا الشغف المستجد الذي صار يمحضه الحكم في سورية لحركة فتح، وكذا الولع البادي من الأخيرة تجاه الحكم المذكور.
غصباً عنا، نجدنا مضطرين للتذكير بأرشيف أسود لفظاعات اقترفها نظام عائلة الأسد تجاه الفلسطينيين، فتحاويين وغيرهم، في لبنان وسورية. ولأن لكل مقام مقال، الأوجب أن يُسأل الأشاوس في ذلك الحفل الدمشقي عمّا إذا كانوا قد تذكّروا، لحظة قطع قالب الجاتو، أنهم على مبعدة أمتار من مخيم اليرموك، المحاصر منذ عامين، ويُمارس عليه الحكم السوري، وتابعوه من عصابات فلسطينية، عقاباً جماعياً، قضى في أثنائه 150 فلسطينياً بسبب الجوع. وقد صار من تبقى في المخيم من ساكنته الفلسطينيين والسوريين تحت غائلة التجويع والقصف واستباحة عصابات النهب وتجار الحروب. ويحدث هذا كله، فيما قيادة فتح التي تقود منظمة التحرير، وهذه على ما لم ننس بعد، قامت لتمثيل اللاجئين الفلسطينيين في كل الشتات، تبرّئ النظام من أي مسؤوليةٍ عنه.
هل يجوز أن تحتفل “فتح” بنفسها في ضيافة نظام الفتك وغاز السارين؟ يتم السؤال، وكل الشكر للكاتب الصديق، ماجد كيالي، ورفاقه من الشباب الفلسطيني الوفي لشعبه، لتوثيقهم جرائم هذا النظام ومواليه ضد الفلسطينيين السوريين (يجوز العكس)، وقد قضى منهم برصاصه وقذائفه 2500 شهيد، منذ اندلعت الثورة ضد استبداده، كما قتل تحت التعذيب في سجونه 270 فلسطينياً. وثمّة من راحوا غرقاً وتشردوا وهجروا. إذا ارتضت قواعد “فتح” هذا التواطؤ المعلن، من بعض قياداتها، والذي يتسامح مع إزهاق كل هذه الأرواح، فإن تشييع الحركة إلى مثواها هو الأولى من تلك الاحتفالات.
صدق الشهيد أحمد كوسا (23 عاما) الذي قتلته رصاصة مجرمة قبل عامين، وهو يأتي بمواد غذائية لناس مخيم اليرموك، لمّا كتب في “فيسبوك”، عشية استشهاده، إن مشكلة المخيم تُحل عندما تُحل مشكلة حماة وإدلب ودرعا وحمص. لروحه المجد، ولأرواح كل شهداء سورية، والعار لأولئك الشاذين عن “فتح” التي كنّا نعرف.
معن البياري – العربي الجديد