ليس الخوض في المذهبية والطائفية والأديان في العالم العربي من صنع “القوى الأجنبية”، كما يظن ذوو النيات الطيبة، فهذا أمر قديم في عالمنا العربي (وفي العالم كله تقريباً)، مذ وجدت الأديان، وراحت تنشقُّ إلى مذاهب وطرق على خلفية صراع مصالح، أكثر ممّا هو صراع أصول ومبادئ.
هكذا، لم تخترع الحرب الأهلية اللبنانية العامل الديني، ثم المذهبي، ولا اكتشفت الثورة الخمينية وجود الشيعة العرب “المحرومين”. كان الظرف السياسي واستخدام الشماعة الدينية والمذهبية، في الصراعات المحلية والإقليمية، يُخرجان الاختلافات والفروق من الكتب إلى الشارع، أو يحقنانها بحقنة مخدرة. وفي كل الأحوال والظروف، لم يكن للغالبية العظمى من أتباع الأديان والمذاهب (بالوراثة!) ناقة ولا جمل.
لا أعرف إن كانت هناك لحظة مريرة وسوداء، في تاريخنا المعاصر، مثل هذه اللحظة. الكراهية والحقد والقتل (إن أمكن)، باسم السنَّة والشيعة، على أشدّها. من باكستان إلى الضاحية الجنوبية، ومن صنعاء إلى القلمون. كيف وصلنا إلى هذه اللحظة التي لم يعد يُعرّف فيها المواطن العربي نفسه إلا من خلال خانة المذهب؟ كيف تبدَّد المشترك القومي والوطني والاجتماعي، وربما الاقتصادي، بين الغالبية العظمى، ولم تبق سوى راية المذهب خفاقة؟ سأستسهل الأمر (لأن المقام لا يسعف بالتوسّع)، وأقول إنها القوى السياسية التي تصدح بالخطاب الطائفي، وتقيم قواعدها على أساسه. إنه الصراع الإقليمي الذي يظن أنه يستعيد لحظة سابقة في التاريخ، ويصفي حسابات متأخرة. إنه جهل الناس بمصالحها الحقيقية، وبمن يمثل، حقاً، هذه المصالح. وأضيف، أخيراً، عامل الخوف، أو التخويف.
سآخذ حالة واحدة: لبنان. لم يكن حزب الله يمثل شيعة لبنان، لكنه صار، شيئاً فشيئاً، “المعبِّر” عنهم، بمن في ذلك قسم من غير المتدينين. تحوَّل شيعة لبنان، قاعدة الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية سابقاً وخزانها البشري، إلى طائفة “خائفة” مضطرة لـ”التسلّح”، للدفاع عن نفسها. تقاسمت فكرة الخوف مع المارونية السياسية التي اقتبستها من إسرائيل.
بدل الخوف من المحيط المسلم في الحالة المارونية، هناك الخوف من المحيط السني.. ورُكِّبت لهذا المحيط حربة اسمها: داعش، علماً أن داعش قتلت من السنَّة أكثر ممّا قتلت من أي طائفة أخرى، وتكفِّر كل من لا يمشي وراء رايتها السوداء. والعجيب أن كثيرين من شيعة لبنان لم يروا غرابة في رحلة بندقية حزب الله من جنوب لبنان إلى عمق الأراضي السورية. اختفى الحديث عن قتال إسرائيل، وحلَّ محله الخوف من “داعش” وأخواتها. مؤسفة هذه الرحلة. مؤسف أكثر القول إن ذلك في سبيل “المقاومة”، ومؤسف أكثر وأكثر سفك دم السوريين ببندقية حزب الله، من أجل طاغية صغير يدعى بشار الأسد، ومصالح قوة إقليمية هي إيران. أسفي، شخصياً، كبير على مآل تلك البندقية التي مرَّغت أنف إسرائيل بالوحل.
والحال أن ورطة حزب الله في سورية لن تمكّنه، بعد، من الكلام المقنع عن “المقاومة”، كما أنه لن يخرج منها سالماً. بشار الأسد سوف يسقط. طال الزمان أم قصر. وحزب الله لن يعود، أبداً، كما كان، عندما يتهاوى عرش الأسد الدموي. فهل هناك من يستدرك ذلك قبل فوات الأوان.. بالفعل؟
لعل تحرّك “شيعة السفارة” (وصف هزلي يذكّرنا بفيلم عادل إمام السفارة في العمارة)، معطوف على بيانات ومواقف الشخصيات الشيعية المستقلة والمثقفين اللبنانيين الشيعة (تسمية غربية يبدو أنهم اضطروا إليها)، التي ندَّدت، في حينها، بقتال حزب الله إلى جانب نظام الأسد (وهو قتال مصالح بالنسبة للحزب، ولا علاقة له بعلي أو الحسين)، قد يرمي حجراً في بركة الخطر المهلك الذي ستفضي إليه مصائر هذه الحرب على الجميع.
“السفارة” التي ترتب أكبر صفقة سياسية مع إيران، وتتقاسم معها النفوذ في غير بلد عربي، ليست في وارد دعم كل من يرفع يده احتجاجاً على ورطة “الحزب” في سورية. هاتوا غيرها!
العربي الجديد _ وطن اف ام