إذا كان أحمد داود أوغلو، رئيس وزراء تركيا قد خاطب مؤيديه من شرفة مقر حزبه قائلا “إن حزب العدالة والتنمية هو الفائز في الانتخابات”، فإن ذلك القول ليس صحيحا. فالحزب المذكور فقد صدارته في البرلمان ولم يعد يحتكر الأغلبية.
لقد هزم الحزب، ديني التوجه، حين فقد القدرة على أن يدير برنامجه داخل البرلمان، ولم يعد في إمكانه أن يسن القوانين التي تسند مشروع رمزه في الحكم رجب طيب أردوغان في الانتقال بتركيا من الأتاتوركية إلى الأردوغانية.
هزيمة الحزب هي بالتأكيد هزيمة لأردوغان، ولكنها ستكون لحظة فصل في الحياة السياسية في تركيا. ذلك لأنها أشّرت، وبشكل لا يقبل اللبس، إلى أن مشروع الحزب الديني قد وصل إلى نهايته، وأن أردوغان 2015 ليس نفسه أردوغان 2003.
كان الرجل في بداية صعوده السياسي حذرا في طرح مشروعه القائم على مبدأ إقصاء الآخرين والتحول بتركيا إلى إطار الدولة الدينية، فكان أن اكتسب شعبية واسعة، لا في تركيا وحدها بل وأيضا في العالم العربي. وهنا يجب الاعتراف أن أردوغان كان ممثلا بارعا، بحيث صدق الكثيرون خرافة الحزب الديني المعتدل الذي لا يتعارض وجوده في الحكم مع القيم العلمانية. ولم يكن ذلك السلوك الحذر سوى انعكاسا للدرس الذي تعلمه أردوغان من تجربة أستاذه في حزب الفضيلة نجم الدين أربكان الذي انتهت سنوات حكمه بتركيا إلى كارثة الاصطدام بالعسكر، وهم حماة تركيا الأتاتوركية.
بعكس أستاذه بدا أرودغان ناعما، متساهلا، خفيف الظل ومهرجا أحيانا. غير أن الوحش الإسلاموي الذي كان أردوغان بارعا في إخفائه ومنعه من الظهور، سرعان ما ظهر حين شعر الرجل، بحكم وجوده الطويل نسبيا في الحكم رئيسا للوزراء ومن ثم رئيسا للجمهورية، أنه قد تمكن من فرض الجزء الأكبر من أجندته، ولم يعد أمامه سوى أن يعلن نفسه سلطانا عثمانيا متأخرا.
وهو ما استشعره معارضوه العلمانيون الذين كانت بهلوانياته الشعبوية قد هزمتهم في ما مضى، فوجدوا في الاعتراض على مشروعه في ميدان تقسيم مناسبة للكشف عن حقيقته الاستبدادية. وكما توقع المعارضون فقد ظهر الرجل على حقيقته. المستبد الذي لا يرى قيمة في وجود خصومه في صناعة الواقع المحلي، وكان أسوأ في ما يتعلق بالواقع الإقليمي. كان موقفه مما يجري في سوريا مستلهَما من إخوانيته، وإن بدا للمعارضة السورية غير ذلك.
لقد اكتشف الأتراك يومها أن أردوغان كان مخلصا لنزعته الإسلاموية، وهي نزعة تقوم على نقل الاختلاف السياسي من كونه خصومة سياسية، إلى فضاء لن يكون فيه التكفير مستبعَدا. وهو ما يعني شق المجتمع التركي وتوزيعه بين معسكرين. معسكر المؤمنين ومعسكر الكفار. وهو ما دأبت الأحزاب والجماعات الإسلاموية على القيام به. مستغلة جهل الناس البسطاء بالنفاق الذي يتخلل عالم السياسة، ليكون أحيانا نسغ حياتها.
لقد ملأ أردوغان، عن طريق ألمعيته، عقول الأتراك سموما. كان هناك من العرب مَن سحرته شخصية ذلك المجازف بقول الحقيقة في منتدى دافوس. غير أن أردوغان لم يكن يومها ليجرؤ على الحديث عن علاقة بلاده الإستراتيجية بإسرائيل.
في الحقيقة لم يكن الأتراك معنيين بخططه الخارجية، يكفيهم أنهم صاروا بسببه، يكره بعضهم البعض الآخر ويتهمه بالخيانة. هناك مَن خان العلمانية التي أوصى بها مؤسس تركيا الحديثة، وهناك مَن خان الإسلام الذي هو وصية السماء.
لقد أنقذت الانتخابات الأخيرة تركيا من حرب النميمة ووضعت كل شيء في مكانه. سيكون على أردوغان أن يقضي حقبة رئاسته في أمان، من غير أن يتمكن من إلحاق صفحته بكتاب بني عثمان، وسيكون على حزبه أن يعيد النظر في قياساته النظرية بما يجعله منسجما مع تحولات الشخصية التركية التي تمكنت منها الأوربة، من غير أن تتمكن منها، ليس الآن، ولكن حتى في القريب العاجل، بل قد تكون الأوربة حلما مستحيلا بالنسبة لتركيا.
إذا لم يكن أردوغان قد انتهى، فإن الأردوغانية قد انتهت إلى غير رجعة.
العرب اللندنية _ وطن اف ام