القول إن الحدث الانتخابي البرلماني التركي هو، في جانب كبير منه، حدث عربي، ذو أبعاد عربية، لا يجانب الصواب. تركيا من البلدان النادرة التي تفتح أبوابها أمام غالبية العرب من دون تأشيرة دخول.
وتحتضن نحو مليون ونصف مليون لاجئ سوري، وتقدّم لهم تسهيلات، تحفّ بها بعض التعقيدات البيروقراطية، وتستضيف الإطار التمثيلي الأبرز للثورة والمعارضة السورية، الائتلاف الوطني. وترتبط بعلاقات متينة مع أغلبية الدول العربية، وتتبنى الموقف العربي والفلسطيني الإجمالي من الصراع العربي الإسرائيلي. وتدافع عن صورة المسلمين عبر تقديم نموذج متطور يمثل تجسيراً بين الإسلام والعلمانية. تحققت هذه الارتسامات بالتدريج منذ عام 2002، مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، بمستوياته التشريعية والتنفيذية والرئاسية، غير أن تركيا والأتراك لا يُختزلون بالطبع بهذا الحزب، ولا بالاتجاه الاجتماعي ذي الطابع الإسلامي. ولذلك، جذب التنافس الحاد في الانتخابات البرلمانية اهتمام السواد الأعظم من الجمهور العربي، المسيس وشبه المسيس. هنا ثلاث ملاحظات حول الأيام الثلاثة التي تلت الانتخابات.
الأولى: فيما فاز الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه، العدالة والتنمية، بـ41% من الأصوات (258 مقعدا من 550 مقعداً)، فقد بدا رئيس الدولة وكأنه قد خسر الانتخابات. في الديمقراطيات المتقدمة، وبالفهم الكوني للعملية الانتخابية، فإن الموقف الذي أبداه الرجل غير مفهوم، فقد تصدر حزبه النتائج، وحاز ما يساوي مقاعد منافسيه الرئيسيين: الحزب الجمهوري والحركة القومية. وهي نتيجة باهرة، بيد أنها لم تبهر أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، إلا بالمعنى السلبي للإبهار. لماذا؟ الجواب الأقرب للوقائع لأنه يريد الحكم منفرداً. لأنه استمرأ هذه الحالة منذ أكثر من عقد. لأن مفهوم الشراكة والائتلاف غاب عن منظوره السياسي، لأن إيمانه بالتعددية الثقافية والعرقية والاجتماعية لا يبلغ حد الإيمان بأهمية انعكاسها على الجسم التشريعي. صدم الرجل، وغاب عن السمع والبصر ثلاثة أيام، حتى إن صحيفة تركية (حرييت) وضعت على موقعها الإلكتروني عدّاداً يحسب على مدار الساعة الحصيلة الزمنية لغيابه. اعتبر أن حجم فوزه بمثابة هزيمة، وهذه الصورة تختلف عن صورة أردوغان ورفيقه عبدالله غل السابق في عامي 2002 و2003، حين كانا يتحدثان عن احترام مطلق لإرادة الناخبين، وعن بلورة ما سمي علمانية مؤمنة، حيث المجتمع مسلم والنظام علماني، بغير تعارض بين الأمرين، وحيث يتم الاهتداء بأفضل المعايير الديمقراطية في عالمنا.
“باستثناء النظام في دمشق، فإن الأطراف العربية لم تنشغل بإقامة علاقات مع رموز الحزب الجمهوري والحركة القومية اللذين كانا يشكلان المعارضة السابقة”
صحّ ما عقب به بعضهم أن أردوغان قد “تعرّب”، فالحاكم العربي يرى في نسبة 41% نسبة رسوبا لا نجاحا، ويرى أن خطأ ما قد حدث، خطأ من جانب الجمهور لا من جانبه. ويبدو أن معايشة الرجل الشؤون العربية جعلته يستبطن النموذج المشرقي عموماً، والعربي خصوصاً. فالمهم ليس الفوز بالانتخابات بأعلى نسبة، وأكبر عدد مقاعد، بما يتيح تشكيل ائتلاف من موقع مريح، بل المهم هو الاستئثار والانفراد، وتزكية الحزب على أنه وعاء الخلاص وأداته الفضلى، وإنكار تمثيل الأحزاب الأخرى قواعد اجتماعية عريضة ورؤى ثقافية قارّة، وعلى تصعيد “مرشد” الحزب أردوغان إلى مرتبة رجل الأمة، لا إلى مكانة السياسي القوي والناجح، كما في الديمقراطيات الغربية. نتائج بضع دورات انتخابية، رئاسية وتشريعية ومحلية، لمصلحة العدالة والتنمية، أثمرت عن انتشاء مستدام. تحول الحزب الأول، في أنظار قيادييه، إلى الحزب الأوحد. وها هو أردوغان ورئيس حزبه، داود أوغلو، يخوضان في اكتشاف الواقع مجدداً، بعد طول استخفاف وإنكار، ويستشعران الحاجة إلى الاعتراف بالآخرين، وعقد مساومات مشروعة معهم، مساومات هي جزء أصيل من “لعبة” الحياة السياسية.
الملاحظة الثانية، وتدور حول موقف مماثل عبّر عنه كارهو أردوغان وحزبه في بعض منابر الميديا العربية، من دون أن يكشف هؤلاء الكارهون إلى من ينحازون في تركيا. فقد طغت عناوين تتحدث عن نكسة وخيبة وخسارة وهزيمة لحقت بالرجل وحزبه، ولدرجة “الإذلال”. مع الاستهانة بأن “العدالة والتنمية” يتصدر النتائج، واعتبار تلك النتيجة أمراً تافهاً، أو عرضياً في أجود الأحوال، لا يستحق التوقف عنده والالتفات إليه. أجل، ظهر ما يشبه الشماتة بالرجل، والنظر إليه على أنه خرج من التاريخ، وأن الأتراك قالوا كلمتهم أخيرا بحقه.
يعكس هذا الموقف ثقافة سياسية، تقوم على معايير خاطئة، تصور الانتخابات على أنها حلبة فروسية، أو حتى حلبة مصارعة، تتمحور نتائجها حول رابح أو خاسر فحسب، وليس حول رابح أكثر ورابح أقل، وحول خاسر نسبيا وخاسر أقل وخاسر خسارة تامة (مهزوم). وبينما تم الحديث عن نكسة أردوغان، وخيبته وخسارته وهزيمته، فإن هذه الميديا لم تكلف الخاطر بالحديث عن الفائز والرابح والمتفوق والمنتصر. جرت تزكية الحركة الكردية (حزب الشعوب الديمقراطي) وصعودها بثمانين مقعداً. حسناً، إلى أي حد أنتم مع الأكراد وحقوقهم حيث يقيمون في سورية والعراق وإيران؟ من أقرب في نهاية المطاف إلى الأكراد في تركيا، أردوغان وحزبه، أم الحزب الجمهوري والحركة القومية؟
الملاحظة الثالثة، تتصل بما سبقها: صعدت ثلاثة أحزاب تركية بفوزها بنسبة 59% من الأصوات. هل هناك من رؤية عربية للتواصل مع هذه الأحزاب؟ ما الموقف حيال التهديدات التي أطلقها جمهوريون وقوميون، بطرد مئات ألوف من اللاجئين السوريين، وما لم يُحصَ من لاجئين فلسطينيين؟ هل هناك دول عربية، وخصوصاً من بين كارهي أردوغان وحزبه، على استعداد لاستقبالهم؟ هل تنشيط التعاون العسكري الأمني التركي مع تل أبيب، وهو مرشح للحدوث، يصب في مصلحة العرب؟ باستثناء النظام في دمشق، فإن الأطراف العربية لم تنشغل بإقامة علاقات مع رموز الحزب الجمهوري والحركة القومية اللذين كانا يشكلان المعارضة السابقة. يتساءل المرء بذلك، من واقع احترام خيارات أكثر من 47 مليون ناخب تركي، ومن موقع القناعة بأن التعددية انتصرت في تركيا، وهذا لمصلحة الجميع، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية، وكذلك من الاعتقاد المكين بأن النظام البرلماني أفضل من الرئاسي في تركيا، حتى لا يكون هناك رئيس ومرؤوسين، بل دولة مواطنين كاملي الأهلية والاعتبار والحقوق، في بلاد الأناضول، مع ما لذلك من إشعاع خارجي على المنطقة العربية ومجتمعاتها.
العربي الجديد _ وطن اف ام