لا تزال التحركات العسكرية التركية نحو الحدود السورية متواصلة، وقد وضعت الخطط العسكرية لمعالجة أي تطور يمكن ان يحدث ولا تسمح به الحكومة التركية، وآخر هذه التحركات العسكرية هو استدعاء قيادة القوات البرية التابعة لهيئة الأركان التركية، كبار الضباط المكلفين بحماية الحدود التركية مع سوريا إلى العاصمة أنقرة يوم 5/7/2015، وذلك للمشاركة في الاجتماع الذي سيعقد خلال الأسبوع القادم، وتأتي هذه الخطوة بالتوازي مع استمرار النقاشات الدائرة حول عزم القوات المسلحة التركية دخول الأراضي السورية لإنشاء منطقة عازلة من أجل إبعاد خطر تنظيم الدّولة (داعش) وتنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري (PYD).
فالتحركات العسكرية التركية لم توقفها التصريحات الأمريكية التي تنفي الحاجة إلى منطقة آمنة شمال سوريا، والتي تنفي أيضاً سعي أمريكا إقامة كيان كردي شمال سوريا، وكذلك فإن الحكومة التركية لا تأخذ تصريحات زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم او بيانات الحزب الرسمية على محمل الثقة الكاملة، طالما أن أحداث الواقع تتناقض مع هذه التصريحات الإعلامية والسياسية، لذلك فإن الموقف التركي يعتمد على سماع الواقع وليس التصريحات الإعلامية المزورة للواقع.
لقد قام رئيس هيئة القوات البرية “هلوسي أكار” خلال الأسبوع الماضي برفقة عدد من الضباط الكبار بزيارة المناطق المطلة على الحدود السورية وتفقد الوحدات المرابطة هناك، وبحسب المعلومات الواردة من مصادر مقربة لهيئة الأركان التركية، فإنّ المجتمعون سيتناولون كيفية اقتحام الأراضي السورية في حال تمّ إقرار ذلك، كما سيتمّ رسم خطة لإدخال 400 عربة ناقلة للجنود إلى الأراضي السورية وكيفية وقاية هذه العربات من المواد المتفجرة والالغام المزروعة من قِبل تنظيم داعش.
إن قرار الحرب والسلم في تركيا هو قرار الدولة التركية، يبدأ بقرار رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بان تركيا لن تسمح بإقامة دولة كردية شمال سوريا إطلاقاً، وهذا الموقف أكد عليه رئيس الوزراء أحمد داود اغلو، وهو القرار الذي يؤكد عليه الجيش التركي ومجلس الأمن القومي التركي، فالموقف التركي هو موقف الدولة التركية، وليس موقف حكومة أو حزب حاكم واحد، وليس صحيحاً ان الحكومة الائتلافية لن تسمح بهذه الحرب فيما لو فرضت على تركيا، لن الجيش التركي سوف يتحرك بتفويض برلماني سابق، وبقرار عسكري حازم وحاسم.
إن الرئيس أردوغان يدرك مسؤولياته بحماية الأمن القومي التركي ولا يتخذ قراراته منفرداً، فقد أجرى في الأيام الماضية سلسلة اجتماعات سياسية وامنية وعسكرية وعلى مستوى مجلس الأمن القومي التركي، واستمع إلى كل الآراء الأمنية والسياسية والعسكرية والاستخباراتية، وكان من نتائج تلك الاتصالات والمشاورات خلاصة مفادها: “أنّ هناك لُعبة تحاك في سوريا لصالح أحد المجموعات المتواجدة على الساحة مقابل تصفية المكونات الأُخرى”، ومعلوم ان هذا المكون هو مكون حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب التي تتزعم فصيلاً كرديا، يسعى بالتفاهم مع الخطط الغربية الأمريكية لتغيير الطبيعة الديمغرافية في شمال سوريا تمهيداً لفرض واقع جديد.
ولذلك أعلن رئيس الجمهورية التركية أردوغان بأن الأتراك: “لن يسمحوا لهذه اللعبة بالوصول إلى مآربها وبالتالي حدوث مظالم جديدة بينما هم يحاولون ما بوسعهم إعادة النازحين السوريين إلى مدنهم وقراهم”، فتركيا لم تقم بمساعدة الشعب السوري خلال الأربع سنوات الماضية بإيواء ميلوني سوري وبالأخص من النازحين من مناطق شمال سوريا ومن كل القوميات السورية العربية والكردية والأرمنية والتركمانية وغيرها، ولم تتكلفت الخزينة التركية أكثر من ستة مليارات دولار وهي توفر حياة كريمة، من أجل أن تفسح المجال لإقامة دولة كردية في هذه الأماكن، فتركيا قامت بهذا الواجب الإنساني لمساعدة الشعب السوري، وليس لتعطي فريقاً من الشعب السوري فرصة أطماع الاستفراد بهذه المناطق وإقامة كيان سياسي خاص به، ظنا منه ان السوريين قد هاجروا من هذه المناطق إلى تركيا إلى الأبد، وان تركيا سوف تبقي هؤلاء السوريين في مخيمات اللجوء إلى الأبد، فإذا كانت القرارات الأمريكية بعدم السماح بإسقاط الأسد لسنوات قادمة، فإن على تركيا ان تعمل على معالجة مسألة اللاجئين السوريين بطرق أخرى، غير الطريقة التقليدية السابقة، بإقامة مزيد من المخيمات لاستقبال أكثر من خمسة ملايين لاجئ سوري جديد، إذا تركت شمال سوريا يتحول إلى دولة كردية، رغماً عن إرادة الشعب السوري نفسه.
وسواء اعتبرنا الاستراتيجية الدولية والأمريكية على وجه التحديد قد وقعت في أخطاء في معالجة الأزمة السورية منذ اندلاع الثورة السورية وحتى الآن، أو اعتبرناها ذات خطط سرية خاصة بأمريكا وحدها، فإن هذه الأخطاء لا بد أن تعالج بطرق جديدة توقف تحمل دول الجوار تبعات الحرب المتواصلة في تركيا دون أن تكون مسؤولة عنها، فلا ينبغي أن تتحمل الحكومة التركية ولا الشعب التركي تبعات وخسائر حرب يشنها بشار الأسد على الشعب السوري تحت حماية ومراقبة دولية وإقليمية، وإذا أدت هذه الأخطاء أو الخطط الأمريكية إلى ولادة تنظيمات توصف بالجهادية أو الارهابية ومنها أخيرا تنظيم الدولة الإسلامية داعش، مع كل ما تمثله هذه التنظيمات من تهديد على سوريا وشعبها، ولكن هذا التهديد مهما كان خطيرا يمكن معالجته من قبل الشعب السوري نفسه وبتعاون دولي، بل إن بعض التنظيمات الارهابية يمكن أن تكون لحظة عابرة لا أكثر، أما إقامة كيانات سياسية ذات هوية قومية، فإنها تمثل خطراً حقيقياً على الشعب السوري والمنطقة، مثل إقامة دولة كردية في شمال سوريا، فهذا الكيان يشكل تغييراً أساسيا في تركيبة المنطقة السياسية، ويؤثر على حسابات الأمن القومي فيها، وبالأخص إذا كانت هذه الدولة الكردية قادرة على التحكم بخطوط الطاقة النفطية في المنطقة الغنية بآبار النفط.
لذلك ينبغي النظر إلى فكرة إنشاء هذا الكيان الكردي بخطر كبير على مستقبل سوريا أولاً، لأنه يدخل في المشروع الأمريكي لتقسيم سوريا إلى ستة دويلات بحسب مشروع السفير الأمريكي السابق في سوريا، الذي يرى بان خطة الخلاص من الأزمة السورية هي خطة تقسيم سوريا إلى دولة سنية وأخرى علوية واخرى كردية، فضلاً عن كيانات أخرى إما تضاف إلى دول الجوار أو دويلات محصورة على طائفتها السكانية، فهذه الخطط الأمريكية لا تؤدي إلى حالة الاستقرار في سوريا ولا المصالحة الداخلية وإنما إلى مواصلة الاقتتال بينها إلى سنوات وعقود قادمة، والموقف التركي واضح في رفضه لأي مشروع تقسيم في سوريا دون إرادة وموافقة من الشعب السوري نفسه، فإذا تم تخليص سوريا من أسرة الأسد، فإن البرلمان السوري القادم هو صاحب الولاية التشريعية والسياسية لإقامة دولة سورية مركزية او فدرالية أو كونفدرالية أو غيرها.
ولذلك ينبغي فهم التحذير التركي للولايات المتحدة بخصوص تشكيل حزب الاتحاد الديمقراطي والفصائل الكردية الأخرى مناطق اثنية محاذية للحدود التركية بأنها سوف تتسبب في تقسيم سوريا، بأن هذا الموقف التركي هو للحفاظ على وحدة سوريا أرضاً وشعباً أولاً، كما ان تشكيل الممر من قبل طائفة قومية واحدة في شمال سوريا سيثير الفوضى والخلافات العنصرية والحرب الاهلية، فأول ما سوف يصنعه عزلة اللاجئين السوريين في تركيا عن دولتهم وأهلم ومدنهم وقراهم، فضلاً عما سيؤدي إليه من تهجير مزيد من السوريين وبالأخص من العرب السنة والتركمان إلى جنوب سوريا أو إلى تركيا هرباً من عمليات تطهير عرقي سيكون لها مبررها، إذا أصبح هذا الكيان العرقي الخالص موجودا على أرض الواقع، وما آثار احتلال تل أبيض عن الشعب السوري ببعيد.
إن إقامة مثل هذا الكيان شمال سوريا سوف يغير مسار الثورة السورية من مقاتلة كتائب الأسد وميليشيات إيران وحزب الله الطائفية إلى مقاتلة مشروع الدولة الكردية، وهذا سوف يحرف الشعب السوري عن مسار الثورة أكثر ، بعد ان حرفه التخطيط والمكائد الطائفية الإيرانية من ثورة شعب إلى حروب طائفية يخوض بطولاتها جنرالات الجيش الإيراني وحرسه الثوري وقواد حزب الله اللبناني وميليشيات المتطوعين الطائفين الارهابيين، مما أدى إلى صناعة تنظيمات جهادية وارهابية مقابلة، مثل جبهة النصرة وداعش وغيرها، فهذه الخطط الطائفية التي خلقتها القيادة الإيرانية حرفت مسار الثورة السورية إلى دخول المقاتلين الأجانب من كل انحاء العالم، حتى خشي العالم من انتصارها وسعى إلى تأجيل سقوط الأسد، ولاستنزاف التهور الإيراني في سوريا، ولذلك فإن مشروع الدولة الكردية سوف ينهي مستقبل الثورة السورية في إقامة دولة سورية حرة وديمقراطية، وفي النهاية قد لا تكون فكرة مشروع الدولة الكردية بالنسبة للمخطط الإيراني الطائفي والغربي الأمريكي إلا وقوداً جديدا لمواصلة الحروب القومية بين العرب السنة والأكراد في سوريا أولاً، دون ضمانة انتقالها إلى دول الجوار في العراق وتركيا وإيران، وبذلك لا يكون الشعب الكردي إلا ورقة خاسرة أو وقوداً رخيصاً لمواصلة الاقتتال بين أبناء الأمة الواحدة.
إن تركيا أمام مسؤولية اتخاذ موقف من معارك قومية قادمة في سوريا، وهي امام مسؤولية منع نزوح أعداد اكبر من الموجودة على الأراضي التركية حتى الآن، وفي نفس الوقت هي أمام فرصة أن تكون الأراضي السوري شمال سوريا هي الأراضي التي تؤوي كل الفارين من مجازر نظام الأسد، وهذا لن يتم حتى تكون الأراضي السورية المحاذية للحدود التركية هي أراض آمنة لكل المقيمين عليها أولاً، وآمنة لكل الراغبين بالعودة إليها من كل اللاجئين إلى تركيا ومن غيرها أيضاً، وقد دعت تركيا التحالف الدولي إلى إقامة هذه المنطقة الآمنة للشعب السوري على أرضه وفي بلاده، ولكن أمريكا لم تجد في هذه المنطقة الآمنة ما يخدم مصالحها واستراتيجيتها في سوريا والمنطقة، ولذلك وقفت ضد هذه الفكرة التركية، ولذلك فإن من مسؤولية الثورة السورية ان تعمل على إقامة هذه المنطقة الآمنة في شمال سوريا، وان تطلب من الدول الصديقة ومنها الدولة التركية والدول العربية مساعدتها لإقامة هذه المنطقة الآمنة، ومدها بالعون العسكري والاقتصادي والإنساني، لحين تفضل أمريكا وروسيا وإيران إيجاد حل للمأساة السورية، وتكرمها بإنهاء عصر الأسد الذي لا يمكن أن يوجد حل مع بقائه في الساحة السياسية او العسكرية في سوريا.
وطن اف ام