مقالات

ميشيل كيلو – تحولات مفصلية

تتكشف بالتدريج منطويات المسألة السورية، وتظهر شيئاً فشيئاً نقطة اختلاف جوهرية عن بقية بلدان الربيع العربي التي عرفت ثورات، بينما تخطت أحداثها ساحتها المباشرة، وانقلبت بسرعة إلى أحداث دولية/عرب /إقليمية، تفاعلت بعمق مع صراعات لم تكن بالأصل منها، انضوت نتائجها النهائية في مآلاتها، فصار من المحال إيجاد حل لها بمعزل عن عوالقها الخارجية، وارتبطت خواتيمها بنتائج ستترتب على هذه الصراعات الكبرى، بالنسبة إلى البلدان المنخرطة فيها، وإلى مجمل العلاقات الدولية.

ومثلما انعكست التدخلات الخارجية على هوية الأحداث السورية ومساراتها، تنعكس، منذ بعض الوقت، مسارات هذه الأحداث على الخارج، القريب منه والبعيد. ومع أننا حذرنا، مرات عديدة، من أننا نسير على درب سنفقد معه دولة سايكس/ بيكو التي بدأت تقسيمية، وتحولت في حالة سورية إلى وطنية، ونرجع إلى ما تقرر في مؤتمرات دولية عقدت، لإعادة إنتاج شرق أوسط غير عثماني، يلبي حاجة الأقوام الخارجة من الإمبراطوية الزائلة لكيانات سياسية، تعبر عن هويتها، خصوصاً منهم الكرد والعرب، فإن تطبيق اتفاقية سايكس/ بيكو ألغت ما تقرر للكرد، خصوصاً، من حقوق سياسية وقومية مستقلة، وقوّضت حق العرب في دولة قومية سيدة، دولة/ أمة من طراز حديث، تشبه القائم في أوروبا، وقررت توزيع الكرد على أربع دول، تركيا وإيران والعراق وسورية، وتشطير الوطن العربي وتقطيعه بالمنشار، ورسم حدود داخلية فيه تمنع وحدته، تحرسها جيوش ومصالح داخلية وخارجية، لن تتخلى عمّا في يدها من سلطة وثروة من أجل حلم مستحيل التحقيق، يسمونه الوحدة العربية.

لم يفكر أحد، عندما قامت الثورة مطالبة بالحرية، أن مسارها سيختلف جذرياً عن مسار الثورة في بقية بلدان الربيع العربي، وأنها ستنتج واقعاً مغايراً للواقع السياسي/ الدولوي والمجتمعي القائم، وستجعل دولة سايكس/ بيكو التي اكتسبت طابعاً وطنياً في سورية، بفضل نضالات الشعب ضد الانتداب، ومن أجل نظام حر وديمقراطي، يتسم بالعدالة والمساواة. ويبدو أن إلغاءها صار مطلوباً، إن لم يكن بتفتيتها، فبرميها إلى هاوية فوضى مديدة، تحولها دولة فاشلة، وتهشم حاملها السياسي الوطني، أي شعبها، إلى مزق بشرية مقطعة ومرمية في كل صقع وقفر في المعمورة، بينما يعاد تشكيل المنطقة، وفق تكوينات جديدة، تنهض على ما اعتبرته كوندوليزا رايس يوماً “تفكيك وإعادة تركيب الشرق الأوسط”، من خلال ما أسمتها “الفوضى الخلاقة” التي يبدو أن إدارة باراك أوباما تولت تطبيقها، باستغلال الحدث السوري وقلبه إلى أداة بيدها، تعيد بواسطته تركيب دول المنطقة السايكس/ بيكوية، وتحل محلها دول جديدة، يبدأ تشكلها بانفراط عقد الدول القائمة، ثم بلحم أجزائها، ليتخلق منها، بمرور الوقت، كيان دولوي جديد، يقتطع قسماً من هنا وآخر من هناك، على أسس إثنية أو مذهبية، عابرة للدول الحالية، تقوم بتدخل دولي مباشر، ترسم فيه القنابل حدود الكيانات المطلوبة التي لن يتمكن أي قطاع من الجسد الوطني الموحد القائم تحديها، أو منع اكتمالها.

لإيمانه براهنية هذا الخطر الداهم، أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أنه لن يسمح، تحت أي ظرف، بقيام كيان كردي شمال سورية، على حدود بلاده الجنوبية، ولا يستبعد أن يكون هناك إعلان إيراني قريب، يكرر التعهد نفسه، بينما لا يوجد، اليوم، في سورية من يستطيع تقديم تعهدٍ كهذا، من أهل المعارضة أو من جماعة النظام. لذلك، يرتبط وجود دولة سورية الراهنة بقدرة جيرانها على حماية كياناتهم، وما إذا كان لهم مصلحة في حماية كيانها أيضاً، على الرغم من أن حمايته ستهدد بلدانهم، وستزج بهم في صراعاتٍ لا قبل لهم بها، سيتعارض دورهم فيها مع ما يبدو إرادة دولية، دفعت الأحداث السورية نحو تشابكات ومواقع أنضجت ظروف تقسيمها وشروطه، بدءاً بمنطقةٍ تمتد أعماقها إلى الداخل التركي قبل كل شيء، بملايينه من الكرد الحالمين بإقامة دولة تجمع شملهم إلى إخوتهم في إيران والعراق.

هل بدأ انفراط عقد الدول التي نراها في الشرق الأوسط عامة، والمشرق العربي خصوصاً؟ يقول أردوغان إنه لن يسمح بانفراط سورية. وتقول قنابل أميركا إن واشنطن عازمة على تنفيذ ما قررته. وتقول وقائع التطور التي تجري تحت أعيننا: ما زلنا في بداية الفصل الأول من واقع سياسي مختلف، تنتجه الفوضى الخلاقة. ويقول مثل عربي: إن غداً لناظره قريب.

المصدر : العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى