بعد انتظار مديد وتوقعات كثيرة، لم تخرج الاجتماعات الماراثونية الأخيرة لمجلس الأمن القومي التركي بأية قرارات جديدة ونوعية؛ فلم يُقر أي تدخل عسكري واضح في المسألة السورية، وخطة المنطقة العازلة شمال سورية يبدو وكأنه تم صرف النظر عنها، بعد التحذيرات الأميركية المبطنة من خطورة ذلك. وكذلك لم يتم إقرار أي تحول لنمط التعاطي التركي مع القوى المسلحة السورية المدعومة منها بالأساس، وبقيت «الخطابية» السياسية التركية المحذرة من خطورة تفاقم الأوضاع في الشمال السوري، ومالات التمدد العسكري والسياسي الكردي هناك، بقيت جزءاً تقليدياً مما تمارسه أنقرة منذ سنوات.
لا تعني هذه «السلبية» السياسية التركية، بأي حال، أن تركيا لا تستطيع أن تُحدث تحولاً نوعياً في كثير الملفات التي تشكل مساً حقيقياً بأمنها القومي؛ لكن يبدو واضحاً أن حسابات تركية شديدة الدقة تقف وراء هذا التحفظ. أساسها النزعة السياسية المركزية المحافظة التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية منذ سيطرته على حُكم البلاد قبل عقد ونصف العقد. فهذا الحزب يقرأ في شكل استراتيجي أن منبع القوة التركية ونفوذها متأت من استقرارها المجتمعي والسياسي ونمو اقتصادها وتجربتها الديموقراطية الاستثنائية في المنطقة، وأن هذا المناخ الخاص الذي وفره الحزب خلال السنوات الماضية، وحده كان الخزان الذي أمّن له هيمنته السياسية على الحياة العامة في البلاد. فدخول مغامرات سياسية وعسكرية غير محسوبة بدقة، هو ما فتت وهمش أحزاباً سياسية مركزية سابقة أخرى قبله، كحزب السلامة الوطنية اليميني المحافظ في السبعينات، وحزبي الوطن الأم والطريق القومي في الثمانينات والتسعينات، وأنه لو غامر بأي شيء شبيه بما فعلت تلك الأحزاب، ربما يعرضه لعقوبة من المجتمع التركي، ويُضعفه للغاية.
ليس ذلك مقصوراً على النزعة السياسية لهذا الحزب الحاكم فحسب، بل أن تحولات «تحديثية» في الحياة العامة والاقتصاد والتعليم والتنمية البشرية، حولت تركيا إلى دولة عصرية بكافة تلك المعايير، يُعتبر الاستقرار السياسي والسلام المجتمعي بها رأسمالاً وقيمة مضافة جذرية، لا يمكن التفريط بهما بأية سهولة. شيء يمكن اختصاره بموازنة القوة الناعمة للدولة والمجتمع التركية لنظيرتها من القوة العسكرية القاسية، في المسألتين الداخلية والإقليمية على حد سواء.في مشهد متباين مع ما كانت تعيشه تركيا طوال العقود الطويلة للحرب البادرة، حينما كانت دولة شبه عسكرية، متحالفة مع دول المعسكر الأميركي، يخوض عسكرها وقوميوها حرباً شعواء ضد قطاعات واسعة من المجتمع التركي، كالأكراد واليساريين والإسلاميين، وضد بعض الدول الإقليمية في الصراع العالمي الكلي، غير مبالين بالاستقرار المجتمعي والحياة السياسية الصحية، فالمعسكر الأميركي لا الاستقرار الداخلي كان ضمانة تركيا الأولى. تغير ذلك الملمح التركي تماماً في أواخر الثمانينات، فرئيس الوزراء ومن ثم رئيس الجمهورية وقتئذ توركوت أوزال، حين أعاد هيكلة الاقتصاد التركي في شكل كلي، وفتح البلاد للبرلة الاقتصادية وموجات الاستثمارات الضخمة ومساهمة رجال الأعمال في الحياة العامة والسياسية، فانه بذلك غير من هوية تركيا السياسية أيضاً، وفتح الباب لمناقشة المسائل الكردية والعلوية واليسارية، وغيّر جذرياً من دور وقيمة الاستقرار بالنسبة لعموم المواطنين الأتراك. صحيح أن ذلك التحول تعرض لمنغصات في أواسط التسعينات، أثناء أزمات الحكومات الائتلافية العديدة، لكنه بات فاعلاً مركزياً في الحياة التركية، وأهم حسابات مواطنيها ونُخبها الحاكمة والاقتصادية، وهوية تركيا السياسية الجوهرية.
راهناً تتعرض تركيا لكثير من «الاستفزازات» والمماحكات السياسية التي تجبرها على التفاعل المباشر معها، لكنها بالمقابل ما زالت تحافظ على مستوى عال من «ضبط النفس» لأنها تدرك أن ثلاث ديناميات جوهرية للاستقرار يمكن أن تنهار بسهولة إذا فعلت غير «ضبط النفس» العالي الذي تُخضع نفسها له. أولى تلك الديناميات مرتبطة بطبيعة اقتصادها الناعم، وهو المعتمد بثلثيه على عائدات السياحة والتجارة الوسائطية والصناعات المتوسطة والخدمات، فأي عدم استقرار سيؤثر في كل ذلك، وسينكص الثقة الائتمانية وتدفق الاستثمارات والحياة السياحية التركية. وهي الدولة التي سعت بسياسات منهجية لأكثر من ثُلث قرن لتطاول هذا المستوى الراهن، حيث يحتل اقتصادها المرتبة السابعة عشرة على مستوى العالم، من دون أية موارد باطنية ذات قيمة استراتيجية. على مستوى آخر، فإن تركيا تدرك أن سلامها الاجتماعي الداخلي هش للغاية من حيث المبدأ، سواء بين الحركتين القوميتين الكردية والتركية، أو في العلاقة بين المحافظين الإسلاميين والمحافظين العلويين. وأن دخول تركيا في مغامرات وسياسيات غير محسوبة في هذه المنطقة الإقليمية المركبة على حسابات وحساسيات ثقافية ومجتمعية بالغة الدقة والتداخل، أن ذلك سيعرض هذا السلام الداخلي لمزيد من الهشاشة وربما الاندلاع. وهو شأن يبدو جلياً من خلال التحذيرات التي صدرت من حزب العمال الكردستاني وأحزاب المعارضة التركية على حد سواء من تداعيات أية «مغامرة» تركية عسكرية في سورية.
على أن أكثر ما يثير حفيظة تركيا السياسية هو رغبتها الجمة في المحافظة على القليل من علاقتها الاستراتيجية الدولية والإقليمية، وهي التي تنهار بالتقادم خلال السنوات الخمس الأخيرة. كنتيجة للتقارب الأميركي الإيراني من طرف وصعود الهيمنة الإيرانية في كامل الإقليم، ولخفوت وهج الحركة الإسلامية في كامل المنطقة ودورها، هذه الأخيرة التي كانت أنقرة تعتبرها «حصانها» السياسي الموازي للعلاقات الإيرانية مع القوى الطائفية في دول المنطقة.
المصدر : الحياة