في معمعان النقاش حول الأزمة السورية، ننسى السؤال الأساس، وهو: ما هو الأفضل للشعب السوري؟ سؤال نُعيد طرحه في ضوء طبقات المصالح والاعتبارات، والأسئلة المضلّلة التي تُطرح حيال ما يحصل في سورية، بخاصة أن قسماً منها يُقصد به إزاحة الثقل من نقطة الارتكاز، ونقلها إلى قضايا متفرّعة عن الأزمة أو نفي منابعها.
فالنظام المستبدّ وكل المنافحين عنه، يحصرون الأزمة في راهنها ويصوّرونها على أنها صراع بين الدولة والإرهاب التكفيري. تذهب في هذا الاتجاه، أوساط واسعة نسبياً من العلمانيين والشيوعيين العرب تعادي بالفطرة الإسلام السياسي. تأتي بعدهم أوساط تراهن على الدولة والجيش والمؤسسات، غير معنيّة بأسئلة تفصيلية عن ماهية هذه الدولة وجوهرها، ولا بالكوارث التي جرّها نظام البعث على الدولة والمجتمع. فهم يقولون: الأسد على استبداده أفضل من الفوضى! ومثل هؤلاء موجودون داخل الشعب السوري وفي المجتمعات العربية.
إضافة إلى هؤلاء كلهم، سنجد أوساطاً مسكونة بمناهضة أميركا كهاجس وعُصاب، أكان لها دور أو لم يكن، ومثلهم مناهضو إسرائيل، يقفون دائماً في الصف المقابل لهاتين القوتين. حتى ولو كان تدخّلهما حذراً ومحدوداً اتهمتا بالتدخل وصناعة الحدث، فيسهل اتخاذ الموقف من هذا الحدث أو ذاك. وهناك مناهضو السعودية أيضاً، الذين يغالون في مناهضة المملكة، فإذا قالت: تشرق الشمس من الشرق، صارعوا إلى تأكيد شروقها من الغرب أو الشمال! بمعنى أن من الناس، وبينهم سياسيون صغار ومراقبون ومحللون وإعلاميون وناشطون، من يحدّدون الموقف من أزمة سورية تبعاً لموقف الخصم أو العدو، وإن كان في الأمر ما يناقض المنطق أو الوقائع على الأرض.
من هنا أهمية أن نُعيد إبرة البوصلة شمال ـ جنوب. الشعب السوري كان معنياً مثل شعوب عربية أخرى، بتغيير النظام في سورية. فعل ذلك بعفوية الشعوب وإصرارها على الحياة في دولة معقولة. وكانت شعاراته بما يتناسب في السنة الأولى تقريباً. وفي الخلفية، خمسة عقود من الدولة الأمنية وقانون طوارئ وتسيّب الأجهزة الأمنية والمافيات، واتساع عدد المتخرجين من الاعتقال السياسي، وعدد الذين يقضون نحبهم تحت التعذيب. وفي الخلفية، موارد مهدورة وانحسار الريع التجاري والمكوس في عائلات، وطُغم تقاسمت مناطق ومجالات نساط في كل محافظة وبلد. وفي الخلفية، غياب الحريات وحضور الريبة والخوف من ملاحقات النظام، لمجرّد حلقة بيتية حول ثقوب الأوزون! أراد الشعب أن يضمن وصول الماء إلى بيوت أبنائه، وانتظام التيار الكهربائي، وإنهاء المعاملات اليومية من دون اضطرار لدفع رشاوى! وكلّها مطالب مشروعة تمثّلت في التوق إلى الحريات والكرامة الإنسانية والعيش الكريم.
ثورة شعبية بكل المعايير، لا تزال جمراً تحت رُكام المدن، وتحت صور اللجوء في الوطن والنزوح خارجه. ثورة لا تزال تسكن قلوب الغالبية العُظمى من السوريين، الذين شوّه الطاغية صورة وجوههم وقلوبهم. ثورة لا تزال حية تُرزق من حوران جنوباً، حتى الحسكة شمالاً، على رغم لغة الطاغية ومفرداتها المتمثّلة في براميل البارود، واستقدام الأفغان والإيرانيين واللبنانيين. ثورة لا تزال حذرة، على رغم تغييب مئات الألوف من السوريين، وعلى رغم الشحن الطائفي وتجيير الأقليات المذهبية وجرّها إلى الواجهة لتموت كُرمى لعيني الطاغية. ثورة لا تزال لها رايات، على رغم استقدام رايات صراع ديني بين شيعة وسنة، وما يتفرّع عنهما من عقائد ومصالح استراتيجية إقليمية ودولية.
مَن يفترض وجود شعب في سورية، ومَن يفترض أن لهذا الشعب حقوقاً وحريات وكرامات، فلا بدّ من أن يكره الطاغية ويتمنى ذهابه. لا بدّ من أن يتذكّر جرائمه وعنفه المدمّر، والتخريب الذي أحدثه في مجتمعات سورية ومدنها وتاريخها! سيستفظع تعاون هذا النظام ومناوراته مع «داعش» وغيره من قوى على الأرض السورية. سيكرَه تجارته بالمذاهب والأقليات وبحيوات السوريين ومستقبلهم. هذه هي نقطة الارتكاز الأساسية في الأزمة السورية. أما التطورات فوليدة هذا النظام الطاغية وسياساته. أما انتصار إيران وحزب الله وروسيا له، فلا يغيّر من هذه الحقيقة وإن كان يصنع وقائع جديدة على الأرض، أهمها: تعزيز قدرات النظام على امتصاص الضربات المتتالية للمعارضة.
إن النظام الذي بدأت جذوره قومية، انتهى إلى مذهبية قاتلة بزجّ الأقلية العلوية والأقليات الحليفة في حرب مع محيطها. بل صار صراع هذه الأقلية على وجودها، لأن النظام أخذها إلى التهلكة، ويُريد أن يصطحب معه أتباع المذهب الدرزي وغيرهم من أقليات مذهبية ربطها النظام بمصيره، بعد أن اختزل الدولة ومؤسساتها في عائلة وطُغمة. والأمر الآن أكثر استفحالاً ووضوحاً!
لأن النُظم الشمولية في التاريخ شمولية وأمنية ومخابراتية بامتياز، فإنه قلما تمّ هدّها من الداخل، وإن وجد الغضب والرفض. دائماً ما تكون الحاجة إلى تدخل خارجي أو ضغط. وهو حاصل في سورية مع تعذّر تجاوز البُنية الاقتصادية الأمنية للمجتمع. لكن أساس الرفض داخلي بعد اتضاح استحالة إقناع النظام بتقديم تنازلات على سبيل المصالحة أو حلحلة الأزمة، وبعد اتضاح استعداده لتدمير كل شيء في سبيل تفرّده وسؤدده، وبعد اتضاح ارتباطه كلياً بالمشروع الإيراني في المنطقة. ومن الحقائق التي تتضح، أن 80 في المئة من الشعب السوري فُرزوا بوصفهم معادين للنظام، وهؤلاء هم غير العلويين! وهؤلاء مستقبل سورية هُزم النظام نهائياً أو انكسرت أجنحته وعاش على الأوكسجين الإيراني! هؤلاء باقون في سورية أو عائدون إليها بوصفهم ذاكرتها وتوقها إلى ما هو أكثر إشراقاً طال مكوث الدواعش (الذين صاروا ظلّ النظام وصداه في كثير من الأنحاء) هناك أو قصُر!
المصدر : وكالات