كانت أزمتا سورية والعراق كافيتين لتعقيد قضية المشرق وخرائطه ومستقبل أقلياته العرقية والدينية، ولم تبدِ القوى الدولية المعنية حيال تطوّراتهما سوى التريث والانتظار، إلا أن الحروب بالوكالة مكّنتها أيضاً من تبادل الألاعيب والضربات. لكن ظهور تنظيم «داعش» وتوسّعه وتمدّده أدّت إلى مفاقمة الأزمتين، ومنحت تلك القوى الدولية عنصراً جديداً لمناوراتها، إذ إنه يبرر عودتها العسكرية ولو المحدودة، ويتيح لها حجز حصصها في أي تسويات مقبلة. روسيا وإيران ساهمتا في تمزيق سورية، تركيا وإسرائيل تتنافسان على شمالها وجنوبها، الولايات المتحدة ودول غربية تمسك بالخيوط وتراقب، ودول عربية تتطلّع إلى أدوار مهما كانت خلفية أو ثانوية. كان هناك تقاسم نفوذ في العراق بين الولايات المتحدة وإيران، لكن الإحباطات الإمبراطورية دفعت الأولى إلى الانكفاء، والأطماع الإمبراطورية الفارسية زيّنت للثانية عسكرة فئة مذهبية ضد أخرى، فكان «داعش» ثالثهما المستفيد من أخطائهما في إدارة أطماعهما.
جاء هذا التنظيم في لحظته المرسومة. لم يأتِ من فراغ، لكنه جاء ليملأ الفراغ لحظة بلغ انعدام الوزن العربي ذروته، في البلدين، وكذلك في المنطقة. دول تتفكّك، مجتمعات تتمزّق، شعوب تكاد تفقد كل يقين صحيح أو كاذب تكوّن لديها على مدى مئة عام. هي حقبة تشابه انهيار الإمبراطورية العثمانية الذي استمرّت وقائعه أعواماً قبل أن يشرع الورثة في إرهاصات الدول واستقرارها. لم تبدأ مرحلة الحلول بعد في المشرق، فالحروب لا تزال مشتعلة، و «بنوك الأهداف» لم تستنفد بعد، وثمة مدن ومقوّمات اقتصادية ومعالم تاريخية – حضارية لا بد من تدميرها. هنا يمثّل «داعش» الذريعة الأمثل، فخريطة انتشاره وسيطرته هي خريطة الدمار الذي تتوقع القوى الدولية والإقليمية أن يكون كبيراً بما يكفي لإيلام الشعوب وإتعابها وبالتالي إرضاخها لما سيكون من «ترتيبات» جغرافية ونفوذية، فهذه منطقة حكم عليها بأنها تتعذّر حوكمتها، لم يفلح دكتاتوريّوها العسكريون في ضبطها وبناء دول فيها، ولا إسلاميّوها المتوهّمون في سوسها والانخراط «الوطني» في بلدانها.
في فيينا، وعلى هامش المفاوضات النووية، وربما في صميمها، وجد وزير الخارجية الإيراني فرصة لإبداء استعداد بلاده لـ «فتح آفاق جديدة» والمساهمة – بعد الاتفاق النووي ورفع العقوبات – في «مواجهة التحدّيات المشتركة». وإذ أشار تحديداً إلى «تصاعد الخطر المستشري للتطرّف والعنف والهمجية» كتهديد مشترك، فقد دشّن الحديث عن «مقاربات جديدة لمواجهة هذا التحدّي الجديد». كان محمد جواد ظريف، في رسالته هذه على «يوتيوب»، كمَن يلوّح للأميركيين والأوروبيين بـ «هدية إكسترا» لقاء قبولهم تنازلات اقترحها ليصبح الاتفاق النووي جاهزاً للتوقيع. لكنّ الأميركيين كانوا استبقوا ذلك بـ «مغريات» لإيران في سورية وربما في أماكن – عربية – أخرى، إذا وافق المرشد علي خامنئي على صيغتهم للاتفاق وكفَّ عن المراوغة بـ «خطوطه الحمر».
تتوقّع إيران أن يؤدي حل أزمة الملف النووي إلى تثبيتها عضواً سابعاً وأصيلاً في مجموعة الدول الكبرى، أي الـ 5+1، التي ستبقى معنية بإيران وتنفيذ الاتفاق وستكون لها كلمة في المنتدى الدولي الذي سيدرس تطبيع أوضاع المنطقة. لكن الدول الغربية، وبالأخص أميركا، لا تستطيع تصوّر شراكة مع إيران ضد الإرهاب، لأنها تعني ببساطة انضواء الغرب في المحور الإيراني مع نظام بشار الأسد وميليشيات «الحشد الشعبي» العراقية وحوثيي اليمن في مواجهة العرب الآخرين.
كانت زيارة جون كيري لروسيا، عشية القمة الأميركية الخليجية في كامب ديفيد، مرتبطة خصوصاً بسورية، مع تطرّقها إلى اليمن والعراق ومحاربة الإرهاب. وتبين للطرفين أن تحليلهما لتطوّرات تلك الأزمات ربما تقارب قليلاً إلا أن توافقهما على الأفكار المطروحة للحلول خصوصاً في سورية ظلّ متعذّراً، ما يعطّل بالتالي إمكان استثمارهما الدور الإيراني فيها. وفيما تتلاقى روسيا وإيران على تفاهمات وأهداف عامة ما لبثت أن تعمّقت وترسّخت في سياق تدخلهما دعماً لنظام بشار الأسد، فإن ظهور بعض التباين بينهما في الآونة الأخيرة لم يلغِ إدراكهما أن مصالحهما بعيدة المدى في سورية تحتاج إلى اعتراف أميركي في نهاية المطاف.
أما الولايات المتحدة فانطلقت دائماً من قاعدة أنه، باستثناء إسرائيل وأمنها، لا مصالح لها تحفّزها في سورية، ثم إن شراكتها الوهمية مع روسيا في شأن سورية كشفت لها محدودية تأثير موسكو في نظام الأسد قياساً إلى التأثير الإيراني، لذلك فضّلت أن تلعب (أو لا تلعب) وحدها وأن تُلزم «الحلفاء» و «الأصدقاء» بهذا الغموض الذي أظهرت الوقائع أن نتائجه كارثية على مستقبل سورية وشعبها، وأن إسرائيل وحدها المستفيدة منه، لا السعودية مع دول الخليج ولا مصر ولا حتى تركيا. لم تتعرّض واشنطن في أي فترة للدور التخريبي الإيراني في سورية لكنها بذلت كل جهد لفرملة أي تحرك تركي أو عربي، كما استخدمت وجودها في غرفتي العمليات في أنقرة وعمّان لتحديد أدوار المعارضة السورية وأحياناً لإفشال هجماتها حتى بعد نجاحها.
كان الأميركيون والروس رفعوا حججاً وشعارات مشتركة لتبرير عدم اندفاعهما إلى حل سياسي في سورية يطيح بشار الأسد، متذرّعين بالحفاظ على الدولة والجيش والمؤسسات. وربما كان مفهوماً اعتبارهم لهذه العناصر قبل أربعة أعوام، لكنهم يعرفون الآن أنها مجرد عناوين بلا مضامين، فالنظام هو مَن بادر إلى تهشيمها وتجويفها، حتى أصبحت إشارتهم إليها تعني شيئاً آخر لا يصرّحون به، وهو أن النظام تماهى مع طهران وانتهى أمره. لذلك واظبت روسيا على المطالبة بإشراك إيران، سواء لأنها شريكتها أو اعترافاً لها بامتلاكها معظم أوراق دمشق. كانت موسكو تلحّ على المبعوثين الأمميين كي يزوروا طهران وقد فعلوا ولم يلمسوا منها أي تعاون كما أنها لم تقدّم يوماً أي مشروع سياسي يمكنهم الاعتماد عليه. وإذ أحبطت أميركا في اللحظة الأخيرة دعوة الأمم المتحدة إيران إلى مؤتمر جنيف (أواخر كانون الثاني/ يناير 2014)، فإنها تبدي حالياً استعداداً لتزكية دعوتها إلى أي «جنيف 3» يُحكى عنه، بعد توقيعها على اتفاق يضبط برنامجها النووي.
في لقاء اسطنبول بين المبعوث الأممي ستيافان دي ميستورا وقيادة «الائتلاف» السوري المعارض جرى نقاش لسيناريوات الحل السياسي بناء على «بيان جنيف» (30/06/2012) الذي نص على «إقامة هيئة حكم انتقالية» تمارس «كامل الصلاحيات التنفيذية» و «يمكن أن تضمّ أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة، ومن المجموعات الأخرى». وأشار دي ميستورا إلى أن أميركا وروسيا لا تزالان غير متوافقتين على صيغة «هيئة الحكم الانتقالية» التي تعتبر واشنطن – ولا تعتبر موسكو وطهران – أنها تعني بالضرورة «تنحّي الأسد» ورحيله. ورغم أن القرار الدولي 2118 (الخاص بتصفية مخزون السلاح الكيماوي لدى النظام، 26/09/2013) شكّل ذروة «التوافق» الأميركي – الروسي وأعطى قوة إضافية لصيغة «هيئة الحكم الانتقالية»، فقد تبيّن أن «التوافق» يشمل الشأن الكيماوي فقط. وفيما كان متوقعاً أن يقدّم دي ميستورا أوائل هذا الشهر تقريراً عن مشاوراته الطويلة مع الأطراف السورية واقتراحاته التي يقال أنها قد تمهّد لـ «جنيف 3» فقد أُرجئ التقرير بسبب تمديد المفاوضات النووية.
في كل الأحوال، تتمسّك موسكو وطهران بصيغة «جنيف 1» لأنها تمكّنهما من اللعب على غموضها. لكن، مع افتراض إزالة العقبات الهائلة أمام التفاوض بين الأطراف السورية، فإن دخول إيران معترك الحل السياسي من شأنه بل من الضروري أن يضع كل المعطيات على الطاولة، ومنها ترابط الأزمتين السورية والعراقية من خلال دورها، وحتى من خلال «داعش» ومساهمتها في ظهوره ثم مطالبتها بالمشاركة في محاربته، فضلاً عن الضمانات التي تريدها لمصالحها ولميليشياتها. إذا كانت واشنطن ترى في تطوّرات المشرق فرصة لـ «شرق أوسط جديد»، فهل انتظرت كل هذا الوقت لتركيبه وفقاً للمعايير الإيرانية؟ إما أن أميركا – اوباما اللاهثة وراء إيران مخدوعة بأساطيرها، أو أنها مصممة على هذا المشرق بؤرة توترات دائمة.
المصدر : الحياة