بعد واحدٍ وعشرين شهرًا من المفاوضات الصعبة التي أعقبت التوصّل إلى اتفاق الإطار في جنيف في نوفمبر/تشرين ثاني 2013، وبعد عدة تمديدات للمهلة حتى الموعد النهائي للاتفاق، أعلنت مجموعة القوى الكبرى 5+1 (الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى ألمانيا) عن التوصّل إلى اتفاقٍ نهائي مع إيران حول برنامجها النووي، ينص، في مبدئه العامّ، على رفع العقوبات الدولية عن إيران، مقابل تخليها عن الجوانب العسكرية لبرنامجها النووي. وفي حين رحّبت أطرافٌ دولية عديدة بالاتفاق، تحفظت أطرافٌ أخرى، فيما وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بـ “الخطأ التاريخي”.
الإطار العام
يمثّل الاتفاق المرحلة الثالثة والأخيرة من المفاوضات بين القوى الكبرى وإيران، بعد الاتفاق الانتقالي في جنيف في نوفمبر/تشرين ثاني 2013، ثم اتفاق الإطار في لوزان/ سويسرا في إبريل/نيسان 2015. وكما في اتفاق الإطار، يقوم الإطار العام للاتفاق النهائي ( 159 صفحة ما بين وثيقة الاتفاق الأساس وخمسة ملاحق تقنية) على تقييد البرنامج النووي الإيراني الذي يصرّ الغرب على أنّ له أبعادًا عسكرية، في حين تصر طهران على أنه سلمي، في مقابل رفع العقوبات الاقتصادية والمصرفية المفروضة عن إيران، بعد التأكد من وفائها بالتزاماتها بموجب الاتفاق. كما يعزّز الاتفاق الإجراءات والضمانات الرقابية الصارمة على الأنشطة والمنشآت النووية الإيرانية، ويضع قيودًا على مستوى تخصيب اليورانيوم والبلوتونيوم، ويحدِّد عدد أجهزة الطرد المركزي التي تملكها إيران. وبهذا، تأمل الدول الغربية زيادة فترة الإنذار قبل محاولة إيران صناعة قنبلة نووية (breakout) من شهرين، في الوقت الحالي كما تقول الولايات المتحدة، إلى عام على الأقل، ما يوفِّر وقتًا أطول لاتخاذ الولايات المتحدة وحلفائها إجراءات للحيلولة دون ذلك. وفي حال انتهاك إيران بنود الاتفاق، ثمة مواد تنص على عودة فورية إلى العقوبات الدولية والأميركية عليها.
ولن يدخل الاتفاق حيز التنفيذ، خصوصًا الشق الذي ينص على رفع العقوبات الأممية عن إيران، حتى تصدّق الوكالة الدولية للطاقة الذرية على وفاء إيران بالتزاماتها الواردة في الاتفاق كافة، خصوصًا ما يتعلق بتطبيق الرقابة الصارمة على أنشطتها ومنشآتها النووية، بما فيها بعض المنشآت العسكرية. ويفترض أن يعرض الاتفاق على مجلس الأمن، في الأسابيع القليلة المقبلة، لتحويله إلى قرارٍ دولي، ترفع بموجبه العقوبات الدولية عن إيران. وقد كانت مسألة رفع هذه العقوبات إحدى أهم نقاط الخلاف بين الطرفين؛ ففي حين أرادت إيران أن تُرفع فور التوقيع على الاتفاق النهائي، فإنّ الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين أصروا على أن يرتبط ذلك بدخول الاتفاق حيز التنفيذ، وتصديق الوكالة الدولية للطاقة الذرية على وفاء إيران بالتزاماتها، وهو ما حدث.
ولا يقتصر الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني، بل يشتمل، أيضًا، على مسألة حظر مبيعات الأسلحة التقليدية والصواريخ الباليستية أو التكنولوجيا المؤدية إليها إلى إيران. وقد كانت هذه، أيضًا، إحدى نقاط الخلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة، وبين إيران، المدعومة بالموقفين الروسي والصيني. وحلاً وسطاً، اتفق الطرفان على أن يستمر حظر معظم مبيعات الأسلحة التقليدية لإيران خمس سنوات أخرى، في حين يستمر حظر بيع الصواريخ الباليستية أو التكنولوجيا المؤدية إليها إلى ثماني سنوات.
وتصرّ الولايات المتحدة على أنّ الاتفاق النووي مع إيران لا يتضمن تفاهمات معها حول ما تصفه واشنطن “دعم إيران للإرهاب، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان”، وقد أكّد الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أنّ الولايات المتحدة ستدعم حلفاءها في المنطقة، وتحديدًا إسرائيل ودول الخليج العربي، للتصدي لأي تصرفات إيرانية تهدّد استقرار المنطقة، أو تزعزعه.
آليات لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي
لا يشترط اتفاق الإطار في إبريل/نيسان الماضي، ولا الاتفاق النهائي الحالي، على إيران تفكيك منشآتها النووية؛ بمعنى أنّ إيران ستبقى محتفظة ببنيتها التحتية النووية، ما يعني الاحتفاظ بقدرتها على التحول إلى قوة نووية، بعد انتهاء مدة الاتفاق، إذا قررت ذلك. كما وافقت إدارة الرئيس أوباما على “تخفيض” مخزون إيران من اليورانيوم المخصّب، وليس شحنه إلى الخارج، كما كانت تصر من قبل. وتعدّ هذه النقاط التي تُبقي على المعرفة النووية الإيرانية (Knowhow) وبنيتها التحتية قائمتين، أكثر ما يقلق معارضي الاتفاق. وتجادل إدارة الرئيس أوباما بأنّ تفكيك البنية التحتية النووية الإيرانية كليًا يعدّ أمرًا غير واقعي، ويمكن أن يفجّر فرص التوصل إلى اتفاق، خصوصًا أنّ الأمر يعدّ مسألة كرامة وطنية، وهو محل إجماع في إيران؛ وأي عمل عسكري لإرغام إيران على تفكيك برنامجها كليًا سيكون غير مضمون النتائج، وفي أحسن الحالات، سيؤخر البرنامج سنوات قليلة فحسب، بل قد يؤدي إلى تعجيل إيران ببناء قنبلة نووية للدفاع عن نفسها مستقبلًا. وبديلاً من ذلك، نجحت إدارة أوباما في انتزاع موافقة إيران على أربع آليات رئيسة، كفيلة بأن تغلق جميع “السبل” أمام إيران لصنع أسلحة نووية. ويقول أوباما إنّ هذا الاتفاق مبني “على التحقق وليس الثقة”. وهذه الآليات الأربع، بحسب موقع البيت الأبيض، هي:
1. وضع قيود على إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب في منشأة نتنز.
2. وضع قيود على إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب في منشأة فوردو.
3. منع إنتاج البلوتونيوم عالي التخصيب في مفاعل أراك.
ضمان وصول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أي منشأة في إيران، بما في ذلك المنشآت العسكرية، للتأكد من عدم وجود برامج نووية تسليحية سرية.
وقد تم الاتفاق على الآليات الثلاث الأولى في اتفاق الإطار في أبريل/نيسان الماضي. وحسب الآليتين الأولى والثانية، وافقت إيران على تخفيض أجهزة الطرد المركزي التي تملكها في منشأتي نتنز وفوردو من نحو 20000 إلى 6104، ستشغل منها 5060 جهازًا فقط عشر سنوات. ولن يسمح لإيران أيضًا، في فترة السنوات العشر، هي مدة الاتفاقية، إلا بتشغيل أجهزة الطرد المركزي القديمة من الجيل الأول. كما لن يسمح لإيران بإجراء أبحاث وأعمال تطوير مرتبطة بتخصيب اليورانيوم في منشأة فوردو مدة 15 عامًا.
وحسب الاتفاق أيضًا، تزيل إيران أجهزة الطرد المركزي من الجيل الثاني الموجودة حاليًا في منشأة نتنز، وعددها 1000 جهاز، وتضعها قيد التخزين، تحت مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية عشر سنوات. كما التزمت إيران عدم تخصيب اليورانيوم فوق معدل 3.67% مدة 15 عامًا على الأقل، وتقليص مخزون اليورانيوم منخفض التخصيب من عشرة آلاف كيلوجرام إلى 300 كيلوجرام 15 عامًا، ما يساوي قرابة 98% من مخزون إيران الكلي. وأشار الاتفاق، أيضًا، إلى موافقة طهران على عدم بناء أي منشآت جديدة لتخصيب اليورانيوم 15 عامًا، في حين ستستمر عمليات التفتيش القوية لسلسلة تعدين اليورانيوم، وتخصيبه 25 عامًا. وتقول الولايات المتحدة إنّ هذه الإجراءات ستحرم إيران كليًا من القدرة التي تملكها اليوم لبناء عشر قنابل نووية، خلال شهرين إلى ثلاثة أشهر.
تتعلق الآلية الثالثة بمنع إنتاج البلوتونيوم عالي التخصيب، في مفاعل أراك الذي يعمل بالماء الثقيل، فقد نص الاتفاق على موافقة إيران على إعادة بناء المفاعل وتصميمه، بحيث لا يعود قادرًا على إنتاج البلوتونيوم، وتحويله، بمساعدة دولية، إلى مركز أبحاث للأغراض النووية السلمية، وإنتاج النظائر المشعة للأغراض الطبية والتعليمية.
وفي ما يتعلق بالآلية الرابعة، والتي تفصّل آليات الرقابة والتفتيش الدولية الحثيثة على الأنشطة والمواقع الإيرانية، عبر مفتشين تابعين للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإنها ستجري بموجب التزام إيران البرتوكول الإضافي لمعاهدة حظر الانتشار النووي الدولية (NPT)، والتي تسمح لمفتشي الوكالة بالوصول إلى أي موقع في البلاد، بما في ذلك المنشآت العسكرية، لضمان عدم وجود برنامج أو نشاط نووي سري. وحسب الاتفاق، بمجرد أن تقدم الوكالة الدولية للطاقة الذرية طلبًا إلى إيران، للوصول إلى موقع معين، بناء على معلومات استخباراتية أو شكوك، سوف يكون أمام الوكالة وإيران 14 يومًا للموافقة على ذلك. وإذا لم تستجب إيران لطلب الوكالة خلال تلك المدة، يحال الأمر إلى لجنة مشتركة تتكون من الدول التي تشكل مجموعة 5+1 في المفاوضات، بالإضافة إلى إيران والاتحاد الأوروبي، للنظر في النزاع، وأمام اللجنة مهلة سبعة أيام حداً أقصى للبت في الأمر. وتحتاج اللجنة إلى خمسة أصوات فقط من أصل سبعة لتقرر في الأمر، ما يعني، عمليًا، أنّ القرار سيبقى غربيًا، في حال صوتت روسيا والصين مع إيران. وحسب إدارة أوباما، فإنّ مدة الأربعة والعشرين يومًا، منذ تقديم طلب التفتيش إلى حين الفصل فيه، لا تعد كافية لإيران، للتغطية على أي انتهاك تقوم به.
خلاصة
يمثل الاتفاق حول برنامج إيران النووي درسًا في فن التوصّل إلى تسويات معقولة تحقّق جزءًا من مطالب أطراف الصراع ومصالحهم، لكنه يمثل، من جهة أخرى، إقرارًا متبادلًا بين إيران والولايات المتحدة بالفشل حول الأسلوب والنهج الذي اتبعه الطرفان، في العقود الثلاثة الماضية. فإيران تقر بقبولها بالشروط القاسية التي نص عليها الاتفاق، بسبب عجزها عن الاستمرار في تحمّل التكاليف المترتبة على العقوبات الاقتصادية والمصرفية غير المسبوقة التي فرضتها عليها إدارة أوباما والاتحاد الأوروبي منذ عام 2012، والاستنزاف الذي تتعرّض له في سورية والعراق واليمن، وهي تقبل بتفوق الاعتبارات البراغماتية القائمة، والمشتقة من منطق الدولة الإقليمية الداخلة في شراكات دولية، حتى مع “الشيطان الأكبر” على الشعارات الأيديولوجية التي أطلقتها الثورة الإسلامية. أما أميركا، فالاتفاق يمثل إقرارًا بأنّ سياستها لاحتواء إيران ومحاصرتها فشلت في تحقيق أهدافها، وخصوصاً في ضوء الأخطاء الأميركية الكارثية في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما احتلالها العراق عام 2003، ودفعه إلى الفلك الإيراني، وتلكؤها في حل الأزمتين في سورية واليمن، ما سمح لإيران بمدّ نفوذها في البلدين. كما تنسجم هذه السياسة مع توجّهات باراك أوباما المناقضة لتوجهات سلفه جورج بوش الابن في السياسة الخارجية، والتي يطبّقها من دون خوف في فترة رئاسته الثانية، وهي توجّهات تفكيك بؤر المواجهة التقليدية وإحلال الدبلوماسية محل المواجهة والحصار، مع كوبا وإيران، وربما فنزويلا مستقبلًا. الأنظمة العربية هي فحسب التي لم تعد تحصل على إنجازٍ ما في ظل هذه التحولات في السياسة الأميركية؛ في فلسطين مثلًا. فهي منشغلة في كسب أميركا إلى جانبها في الدفاع عن نفسها من حركة الشعوب غير المنظّمة التي تحولت بالقمع إلى حروب أهلية، حتى وجدت نفسها بعد الاتفاق على مقربة من الموقف الإسرائيلي.