عندما نزل المصريون الى الشوارع يهتفون: “يسقط يسقط حكم العسكر”، كان عسكر “الجيش العقائدي” في سوريا ينتظرون من عسكر مصر أن لا يخيبوا أملهم في الطريقة المثلى للتعامل مع المتظاهرين، بأن يتصدوا لهم بالدبابات والطائرات، وإذا لزم الأمر بأن يحولوا مدينة السويس الثائرة إلى مدينة “حماة” أخرى مثلما فعل حافظ الأسد في ثمانينات القرن الماضي عندما لم يترك فيها حجرا على حجر بعد أن قتل أكثر من ثلاثين ألف من أبنائها.
عسكر مصر كانوا عند حسن ظن رفاقهم في سوريا ولو بعد حين ففعلوا ما فعلوه في ميدان “رابعة العدوية” في القاهرة.
قبيل منتصف القرن الماضي رحلت القوات الفرنسية من سوريا بعد أن خلف جيشها ابنه الشرعي المسمّى “جيش الشرق” المكوّن بأغلبيته من أبناء الأقليات. العقيدة القتالية لـ”جيش الشرق” كانت إخماد الثورات التي اندلعت ضد المحتل الفرنسي من غوطة دمشق إلى جبل الزاوية في إدلب مروراً ببقية المناطق السورية.
“جيش الشرق” كان نواة “الجيش العربي السوري” الذي أسس بعد جلاء المحتل، وأصبح بعد عقدين من الزمن يحمل لقب “الجيش العقائدي”، والذي كان يتم اختيار قياداته وضباطه وصولا الى صف ضباطه وعناصره بمواصفات تتيح “علونته” (أي جعل مكوّنه الأساسي من الطائفة العلوية)، كما حصل في مؤسسات الأمن. وتتمثل عقيدة “الجيش العقائدي” القتالية بالدفاع عن نظام مافيوي طائفي أمني عسكري يخرس معارضيه تحت عنوان أن “لا شيء يعلو على صوت المعركة” مع إسرائيل والامبريالية العالمية، ولكنه عندما احتلت تل أبيب هضبة الجولان لم يعني للجيش ذلك شيئاً وظهرت تصريحات تقول أنه انتصر لأن “النظام التقدمي” لم يسقط!
عسكر سوريا هم الذين أجبروا في نهاية الخمسينات رئيس الجمهورية المنتخب شكري القوتلي على تسليم البلد للمؤسسة الأمنية والعسكرية المصرية باسم الوحدة مقابل منحه لقب “المواطن العربي الأول” (غير أن المواطن العربي الأول أصبح ملاحقاً فيما بعد بتهمة التآمر على الوحدة)، وكان الهدف من هذه الحركة الانقلابية إنهاء التجربة الديمقراطية التي عرفتها سوريا بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية استهدفت إنهاء الحياة السياسية في سوريا، من البرلمان المنتخب إلى الصحافة مروراً بالأحزاب السياسية ليبدأ زمن “زوار الفجر” والبوط العسكري.
في نادي ضباط اللاذقية رد جمال عبد الناصر التحية للمحتشدين الذين كانوا يهتفون بحياته: من يحاول التآمر على الوحدة سندوسه بـ”الجزم”، وتم الدوس بالبوط العسكري على كل من كان يحاول التنفس طلباً للحرية، وأصبح البوط العسكري هو عنوان الحياة السياسية التي سادت سوريا طيلة عمر الوحدة، ثم سقطت الوحدة رغم ازدياد حجم وقياس البوط العسكري طولاً وعرضاً ليصبح بحجم الوطن.
عاد العسكر من جديد تحت عنوان إنهاء تسلط الأمن والعسكر والدكتاتورية فكان الانفصال وشهدت البلاد خلال هذه الفترة القصيرة زمناً عودة الحياة السياسية ولم يمض سوى عام ونصف العام حتى تحركت الدبابات من جديد تحت عنوان: إنهاء عهد الرجعيين والإقطاع ورأس المال.
لترسيخ حكم العسكر بعد انقلاب البعث جرى تأسيس ميليشيات طائفية حملت اسم “الحرس القومي”، وكما كان “جيش الشرق” نواة الجيش الذي تشكل بعد الاستقلال كان “الحرس القومي” نواة جيش الشبيحة الذي يحمل اسم ميليشيا “الدفاع الوطني”.
بعد سيطرة “يسار” حزب البعث على السلطة عام 1966 بدأت مرحلة تحويل الجيش من جيش الأقليات إلى جيش أقلية واحدة فبدأت “علونة” المؤسستين الأمنية والعسكرية باسم شعارات اليسار والتقدم.
وزير خارجية النظام آنذاك قال خلال دردشة بعد محاضرة القاها في اللاذقية ورداً على سؤال يتعلق بكيفية “حماية الثورة”: يجب إرسال عشرات الآلاف من أبناء جبال اللاذقية لحماية الثورة من أعدائها الرجعيين والإمبرياليين، ويجب إسكان هؤلاء في التلال المحيطة بمدينة دمشق، وعندما سئل لماذا خصص أبناء جبال اللاذقية بهذه المهمة أجاب: لأنهم أشداء وهذه المهمة لا يمكن أن يقوم بها أبناء المدن الذين اعتادوا الرفاهية.
هؤلاء الذين سكنوا أعالي التلال أصبحوا مستودع “شبيحة” النظام السوري الحالي ومن مناطقهم تقصف غوطة دمشق، وكانوا أيضا نواة “سرايا الدفاع عن الثورة” التي شكلها رفعت الأسد وفعلت بعد ذلك ما فعلته في مدينتي حماه وجسر الشغور، كما كانت تستفز السوريين في الشوارع ووصل بغي هذه العصابة حد الاقدام على نزع أغطية الرأس عن رؤوس النساء في شوارع دمشق.
عقيدة “الجيش العقائدي” القتالية كانت وما زالت التصدي للشعب، وهذا الجيش العقائدي نفسه الذي اعترف وزير دفاعه السابق مصطفى طلاس بأنه كان يوقع يوميا على عشرات أحكام الإعدام في ثمانينات القرن الماضي.
في نهاية السبعينات تسنى لكاتب هذه السطور بصفته مراسلا عسكريا خلال الخدمة العسكرية الإلزامية أن يحضر مناورة عسكرية لقوات “سرايا الدفاع” في مدينة طرطوس، وقد سأل خلالها أحد الضباط رفعت الأسد “كم صاروخا من هذه الصواريخ يكفي لتدمير مدينة طرطوس؟”، وقد أدركت يومها أن الصواريخ ستتساقط في يوم ما على المدن السورية وهو ما حصل في حماة ويحصل الآن.
وفي إشارة الى ركاكة وهلهلة وزن حزب البعث أمام العسكر نذكر هذه الحادثة التي جرت قبل أن ينفذ حافظ الأسد انقلابه العسكري عام 1970 حيث جاء من يحذره من مغبة الفشل لأن قيادة الحزب ستقف ضد مغامرته، يومها ضحك الأسد وقال إن الأمر لا يحتاج الى أكثر من ثلاث عشرة سيارة لشراء قيادة الحزب ولكن ما حصل أن سبع سيارات فقط كانت كافية لشراء ذمم الرفاق.
المصدر : هافينغتون بوست عربي