كان نشاط الأروقة محموماً منذ بداية شهر أغسطس/آب الحالي. لعب فيه وزراء الخارجية، جون كيري وسيرجي لافروف وعادل الجبير وجواد ظريف، الدور الأساسي. بدأت اللقاءات في الدوحة بين الجبير ولافروف، ثم بين كيري ولافروف، وعاد الجبير إلى لقاء لافروف، لكن، في موسكو نفسها. واختُتِم موسم لقاءات الخارجية بمشاورات جمعت ظريف ولافروف. اللافت أن لافروف كان المحور ونقطة الارتكاز في كل أجزاء المشهد السياسي، وإذا أضفنا لقاءه رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، خالد خوجة، فسنعرف أي جهد جبار يقوم به الوزير الروسي، وكم من الوقت الدبلوماسي تخصصه بلاده لصالح “سورية”!
اشتعلت عناوين الصحف، بعد اللقاء الأول للافروف مع الجبير، بخبر الحلف الذي سيتشكل لمحاربة الإرهاب، والمكون من سورية وتركيا والسعودية ودول أخرى.. نغمة الإرهاب نفسها خرجت بعد لقاء لافروف مع كيري، ووافقه كيري على أن الإرهاب خطر كبير، يجب الوقوف في وجهه! وهنا استغل لافروف تصريحات كيري لينتقد موقف الولايات المتحدة من رحيل الأسد. ويبدو، بعد ذلك، أن الكيل قد طفح بالجبير، فقال، بعبارة صريحة لا تقبل التأويل، في لقائه الثاني بلافروف، إن على الأسد أن يرحل طوعاً أو بالقوة، فيما كان لافروف يلوك كلماته الأثيرة عن الإرهاب. أما آخر لقاء عقده حليفا الأسد، جواد ظريف ولافروف، وقال فيه وزير الخارجية الروسي إن موقف بلاده من الأسد “لم يتغير”، فقد بدد انطباعات خالد خوجة الذي عاد من موسكو مبتسماً، وفي جعبته فكرة “باردة” تقول إن موسكو غير متمسكة بالأسد.
يبدو تجمد لافروف غير محدود، فكأن هذا الرجل مصنوع من لوح “بوظ”، وقد وصل بروده إلى حد البلادة، إلى درجة أن محدثه قد يخرج بانطباع خاطئ عن حقيقة موقفه، وقد غالطت نشرات الأخبار مشاهديها عشرات المرات بشأن الموقف الروسي الذي يبدو متذبذباً كإبرة ميزان حائرة، لا تعرف أين تستقر.. لكن الواقع الذي نؤرخ له، ويمتد أكثر من أربع سنوات إلى الوراء، يقول إن الموقف الروسي شديد الثبات. ومهما تغيرت سحنة لافروف، ومارس ألعاب الحاوي مع محدثيه، فإن روسيا اختارت الجانب الذي ستقف عليه، ولا حاجة لإعادة سرد قصص الفيتو في مجلس الأمن وفبركات مؤتمرات “السلام” التي عقدت، برعاية روسية، بين النظام ومَنْ زعموا أنهم معارضوه.
قد يكون تاريخ التعاون الروسي مع النظام السوري طويلاً وعميقاً وحقيقياً، لكنه ليس السبب الوحيد لاستماتة لافروف في سبيل النظام، فقد أبدت أميركا إحجاماً واضحاً تجاه النظام، وعلى الرغم من عشرات التأكيدات على أنها لا ترغب برؤية وجه الأسد رئيساً في دمشق، وأن فترة صلاحيته انتهت، وأن وجوده سبب أساسي لظهور التطرف، إلا أنها وافقت، بسهولة، على شطب الضربة الجوية التي لوحت بها، بعد إبرام صفقة ذات طابع إعلامي، واشترطت على مقاتليها الذين تدربهم التفرغ لقتال داعش وليس النظام، وتقف، الآن، متفرجة أمام أساليب التدمير البدائية التي يستخدمها النظام ضد السكان والأماكن السكنية.
يعطي هذا السلوك الأميركي مؤشراً إيجابياً لموسكو، لتحافظ على موقفها وتزيد دعمها الدبلوماسي والعسكري للنظام.
وفي خطوةٍ، حرصت روسيا على أن تصل، بكل تفاصيلها، إلى الإعلام، بدأت بتزويد النظام بطائرات ميغ 31، فيما بدا وكأنه قفزة في سبيل تعزيز ما يملكه النظام من وسائط جوية، بعد أن فقد معظمها خلال الحرب التي أنهكت قواته الجوية واستنزفتها، فأصبح الأسد، بعد حصوله على الطائرات الجديدة، يتحرك بشكل يجعل سيطرة قواته الجوية واضحة، متمكناً، بواسطتها، من الاحتفاظ بالأجواء، بعد أن فقد الأرض. وبذلك، عززت روسيا، بما لا يقبل الشك، تَمَكُّنَ النظام عسكرياً، وقدمت، وما تزال، رسالة سياسية واضحة بأعرض “بنط” يمكن أن تكتبه جريدة: “روسيا لن تتخلى عن الأسد”. وعلى الرغم من وضوح الرسالة وخطورتها، فهي تنتظر متلقياً يفطن إلى فك رموزها، وطريقة الالتفاف عليها، ومعالجتها.
المصدر : العربي الجديد