مقالات

عبيدة عامر – القاتل ليس الضحية.. والنظام ليس الثورة

في تقريرها الأخير عن مجزرة دوما، في 16 آب/ أغسطس الجاري؛ عنونت وكالة “رويترز” تقريرها عن المجزرة بعنوان: مقتل 80 على الأقل في ضربات جوية قرب دمشق، في لغة باردة محايدة وصفت مجزرة قام بها نظام وحشي مجرم، على منطقة عازلة، وسوق مكتظ، في وقت ازدحام، معتبرة قصف النظام مستخدمًا صواريخ عسكرية على هذه المنطقة بأنه “ضربات جوية” دون تحديد صاحبها -مع وضوحه بلا أي شك أو لبس-، كما استدخلت به -في جملة غير مفهومة وبلا أي سياق- زهران علوش في جملة: “وأظهر مقطع مصور بثه جيش الإسلام مشاركة قائده زهران علوش في الهجوم”، دون أن تتضح الغاية من هذه الجملة.

تقرير “رويترز” يأتي كنموذج لتعامل الوكالة مع الأزمة السورية -بالنقل عن المرصد السوري بالدرجة الرئيسة الذي يعتبر نفسه طرفًا “محايدًا” في صراع أخلاقي-، وتعامل “رويترز” يأتي كنموذج لتعامل الوكالات والصحافة والجهات السياسية الغربية مع الحالة السورية.

هذا التعامل مع الأزمة السورية يعتمد بالدرجة الرئيسة على اللغة، التي تستبطن نموذجًا كاملًا للحكم الأخلاقي ومن ثم التعامل السياسي، ضمن تداخل زماني مكاني كثيف ومعقد، ودخول الكثير من المؤثرين به، عبر استخدام مصطلحات مثل “الصراع” و”الأزمة” و”أطراف الصراع” و”الحرب الأهلية”؛ مما يعطي -بشكل مقصود لدى الجهة الإعلامية أو السياسية، وشكل غير مقصود لدى المستقبل- انطباعًا بأن ما يجري في سوريا هو عبارة عن صراع سياسي بحت، وليس اختلافًا أخلاقيًا؛ مما يساوي بين “الجلاد” و”الضحية”، والمستوى الأخلاقي للمؤثرين في الصراع؛ مما لا يتجاهل حقائق الماضي التي بدأت بها الثورة قبل أربع سنوات ونصف وحسب؛ بل يتجاهل حقائق الواقع كذلك.

الفوارق بين النظام والثوار ليست فوارق تكتيكية أو شكلية أو كمية، لكنها فروق جوهرية مرتبطة بسير خط الثورة وتشكل الفصائل المسلحة والمعارضة السياسية وبنيتها -مقابل تشكل النظام وبنيته-، والتعامل الجاري الحالي، والتعامل اللاحق لأحداث الثورة اليومية والكبيرة كذلك.

المدافع الشعبي مقابل المافيا السياسية

الحالة السورية الآن هي حالة عسكرية بالغالب؛ إذ إن الصراع المسلح هو الأكثر تأثيرًا بما يجري -بالمقارنة مع السياسي أو الحقوقي أو القضائي على سبيل المثال-، وتوصيف هذا الواقع بأنه حرب أهلية ليس خاطئًا بالكامل -إذ إنه عبارة عن صراع عسكري مسلح بين الحكومة ومعارضيها بالفعل-، لكنه اختزال كبير له، واختصار لكثير من حقائقه.

أبرز هذه الحقائق، هو أن بنية الطرفين المتحاربين الأساسيين -زمانيًا وتاريخيًا- تختلف تمامًا بتشكلها، كما أن الحالة العسكرية الراهنة ليست امتدادًا لحرب وصراع مسلح على السلطة؛ بل هي امتداد لانتفاضة شعبية كبيرة، تحولت إلى ثورة مدنية عارمة، اضطرت للتحول بشكل مسلح لحماية نفسها، أمام نظامي فاشي مافيوي مجرم.

النظر لتشكل الفصائل الفصائل الثورية المسلحة تاريخيًا -بما فيها الفصائل الإسلامية الكبرى كأحرار الشام الإسلامية، وجيش الإسلام، وحتى جبهة النصرة إلى حد ما-، ينطلق من كون المتظاهرين أنفسهم، الذين يمثلون كتلًا كبيرة من الشعب -أفقيًا بالامتداد الجغرافي، والعمودي بالاختلاف الديموغرافي-، هم الشريحة الكبرى التي حملت السلاح، وتحولت إلى حامية لنفسها، ثم تنظمت ضمن جيوش أو حركات، متمايزة فكريًا وسياسيًا وواقعيًا -باختلاف التمويل والتشكل-؛ مما يجعل الفصائل المسلحة ذات شرعية نضالية واجتماعية وواقعية.

مقابل هذا التشكل للفصائل المسلحة، نجد تشكل النظام الذي اعتمد على نخبة طائفية -علوية- وسياسية -من حزب البعث- حصلت على دعم خارجي -فرنسي-، واستطاعت تثبيت نفسها عسكريًا على الشعب، وعلى بقية المتنافسين بإقصائهم تدريجيًا، بدأت بانقلاب كتلة حافظ الأسد على صلاح جديد بما يسمى الحركة التصحيحية في الثامن من آذار، ومن ثم استئصال الإخوان المسلمين في الثمانينيات التي تجلت بمجزرة حماة.

هذه النخبة استدخلت بالدولة، وتحولت إلى مافيا اقتصادية وسياسية وعائلية، أخذت أبرز أشكالها بالتحول الاقتصادي من الاشتراكي إلى الليبرالي إلى النيوليبرالي -مع حركة إصلاح بشار الأسد-، من ناحية، والتحول من جيش وطني إلى جيش طائفي بالبنية والتشكل، يحمي تلك المافيا مع ميليشيات طائفية وحشد طائفي شيعي، يواجه المدافعين الشعبيين؛ مما يضع حدًا وفارقًا أخلاقيًا جوهريًا زمانيًا بين الطرفين.

أخلاقيات الحرب خلالها وبعدها

الفارق بين الفصائل الثورية والنظام ليس فارقًا أخلاقيًا تاريخيًا، لكنه كذلك مرتبط بالواقع، وليس كميًا فقط؛ بل هو مرتبط بالنوعية.

مقابل قصف النظام العشوائي باستخدام كل أنواع الأسلحة العسكرية وغير العسكرية -من الصواريخ وقذائف الهاون والبراميل المتفجرة والصواريخ البالستية-، على المدنيين -الذين يشكلون 80 بالمئة من ضحايا الحرب السورية الذين يقاربون الـ250 ألفًا-، والذبح الطائفي للمدنيين، واعتقال مئات الآلاف في أسوأ المعتقلات وعدم توفير أي ظرف إنساني للمعتقلين، بمعدل لا يقل عن مقتل مئة مدني يوميًا؛ كمنهجية وسياسة استمرت منذ اليوم الأول استطاعت الثورة بشكل جماعي -تشوبه بعض الانتهاكات الفردية، كرد فعل بالغالب-، ومع كل هذا الدم، أن تحافظ على منهجية بعيدة عن القتل الجماعي أو المجازر أو الانتهاك أثناء الاعتقالات.

ومقابل الاحتفاء بالقتل وإظهاره كبطولة، وعرض المجزرة كانتصار عسكري وبطولي؛ فإن أول منتقد لأي فصيل مسلح ثوري ليس أحد أعدائه؛ بل هو الفصائل المسلحة الأخرى والثوار والمجتمع الذي خرج ليحميه، خشية على الضحية أن تتحول لنسخة شبيهة من قاتلها، مما يوفر حصانة أخلاقية طويلة الأمد للثورة.

وليس هذا المقال لتبرير الأخطاء أو تجاوزها، لنظهر الثورة السورية كما نريد ونتمنى، لكنه لتحديد مكانها وعرضها، ومحاولة تحديد وفهم الواقع السوري كما هو، لا كما تريد الوكالات والجهات الغربية، بإظهار التساوي بين القاتل والضحية، وبين البطل والمجرم، هروبًا وتنصلًا من المسؤولية، وخداعًا للنفس وتشويهًا للواقع.

المصدر : التقرير 

زر الذهاب إلى الأعلى