مقالات

سعدية مفرح – حتى لو طرقوا الخزان يا غسان!

كلنا في ذلك الخزان يا غسان. نجح بعضنا في طرق جدران الخزان وفشل آخرون منا! لكن من قال إن كل من نجح في الطرق نجا فعلًا؟

أغرى التشابه الواضح ما بين الحدث الرئيس في رواية غسان كنفاني الشهيرة “رجال في الشمس” والحدث الحقيقي في الخبر الذي أعلنت عنه الشرطة النمساوية مؤخرًا والمتعلق باكتشاف جثث لاجئين سوريين في شاحنة متوقفة على الحدود، كثيرين للمقارنة بينهما وبين الوصول في النهاية إلى النتيجة نفسها عن الموت المجاني المتفرق بين قبائل العرب على حدود الهجرة القسرية من الأوطان إلى المنافي!

الأوطان أجمل البلاد بالتأكيد، لكنها ليست الأكثر أمنًا ولا الأوفر كرامة دائمًا؛ ولهذا اخترع البشر فكرة الهجرة واللجوء!

الحدث الروائي الذي كتبه غسان كنفاني في ستينيات القرن الماضي يصور مصير ثلاثة لاجئين فلسطينين اضطروا لترك وطنهم بعد نكبة الـ48؛ حيث وصلوا بطرق مختلفة إلى العراق في طريقهم إلى الكويت، البلد الحلم بالنسبة إلى أي لاجئ يحلم بالأمان والثروة السريعة. ولأنهم لم يستطيعوا دخول الكويت بطريقة رسمية وشرعية لأسباب كثيرة؛ اضطروا إلى محاولة عبور الحدود بين البلدين بواسطة مهرب محترف أصعدهم شاحنة مزودة بخزان كبير مخصص لنقل المياه، واتفق معهم على البقاء في قعر الخزان الفارغ من المياه لمدة دقائق تكفي لعبور الحدود عبر المنفذ الرسمي. وكادت الخطة أن تنتهي على خير فعلًا لولا أن المهرب أبا الخيزران أسرف في الحديث مع موظف الحدود بحديث لاهٍ عن ذكورته المزعومة، وهو الذي فقدها إثر انفجار قنبلة، فأصبح نتيجة لذلك يعوض فقدانها بالحديث عنها مع كل من يصادفه تقريبًا.

كان المهرب قد نسي أن خزانه، الذي تحول إلى فرن بسبب حرارة الصيف التي لا تكاد تحتمل في تلك البقعة الجغرافية من العالم، يحتوي على ثلاثة فلسطينيين يحاولون التغلب على ظروفهم القاسية باستبدال مكان إقامتهم لجوءًا إلى بلاد جديدة، ولم يكن يعي وهو يكتشف أنهم قضوا نحبهم في النهاية اختناقًا في ذلك الخزان، أنه لم يساهم بقتلهم وحسب؛ بل ساهم أيضًا بقتل الحلم في قلوب أسرهم التي كانت تتطلع إليهم، فيما يشبه الانتقام من واقعه الذي حرمه من تكوين أسرة!

صرخ أبو الخيزران وهو يتخلص من جثث مروان وأبي قيس وأسعد بسؤاله الاستنكاري الرهيب: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟

لا ندري إن كانوا قد دقوا جدران الخزان قبل أن تزهق أرواحهم فلم يسمعهم أحد، أم أنهم فضلوا أن يستسلموا للموت بهدوء بعد أن بلغوا ما بلغوه من محاولات للعيش بكرامة من دون جدوى. لكن ما نعرفه وشهدناه لاحقًا أن صدى سؤال غسان كنفاني على لسان أبي الخيزران ظل يتردد ويتعالى ويكبر حتى تعدى خطوط الخريطة العربية كلها، ليصل في القرن الحادي والعشرين إلى حدود أوروبا حيث يموت آلاف اللاجئين العرب بطرق لا تختلف كثيرًا عن الطريقة التي مات بها أسلافهم الرجال تحت الشمس! آخر حوادث الموت العربي التي توزع بالعدل والقسطاس والمجان برًا وبحرًا وجوًّا على كل الحدود، حادثة اللاجئين السوريين الذين عثرت عليهم الشرطة النمساوية على الحدود في شاحنة للدواجن المجمدة، حيث تجمدوا فيها واختنقوا وماتوا في دقائق عابرة بين بلدين من بلاد الغربة البعيدة، ولا ندري إن كانوا قد طرقوا جدران الشاحنة قبل أن يموتوا أم لا، لكننا رأينا جثثهم المتلاصقة فوق بعضها البعض في صور فوتوغرافية تحدت الضمير الإنساني ونجحت في التحدي! فلا يمكن الفشل في التحدي مع الموتى، وضمير البشرية مات منذ زمن بعيد! لذلك على اللاجئين السوريين الذين فروا من طغيان الرئيس الديكتاتور إلى طغيان العالم الديكتاتور أن يذهبوا إلى موتهم بشرف المحاولة على الأقل.

تقديرات مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، تشير إلى ما يزيد عن 310 آلاف لاجئ سوري عبروا البحر المتوسط إلى أوروبا منذ يناير هذا العام، غرق منهم في البحر نحو 2500 لاجئ، ونجا الآخرون.. حتى حين. وبالنسبة إلى كثيرين؛ أصبح الوطن العربي كله خزانًا ضخمًا، والجميع يطرق جدرانه من الداخل، لكن لا أحد خارج الخزان ممن يقوده أو يراقب سيره أو يوجهه على الطريق يسمع! فكل منهم مشغول بالحديث الانتقامي العبثي عن ذكورته غير الموجودة أصلًا!

الغريب أن هذا الموت السوري الذي انتشر على شواطئ القارة الأوروبية، على شكل جثث أحيانًا وبشر أحياء بعيون مندهشة وملامح مفزوعة أحيانًا أخرى، صار مشهدًا طبيعيًا جدًا ومألوفًا جدًا جدًا ولم يعد يهتم معظم العالم إلا برصد الأرقام والمقارنة بينها ما بين الحياة والموت، تمهيدًا لتحويلها إلى ورقة على مائدة المفاوضات مع  طاغية الشام المتربع على براميله القاتلة، والمجهزة لقتل ما تبقى من شعبه، بسعادة بالغة!

هل كان اللاجئون السوريون سينجون إذن لو أنهم طرقوا جدران الشاحنة قبل أن تنسلَّ منهم أرواحهم صعودًا إلى بارئها؟ هل كان سيسمعهم أحد فعلًا؟ لو كان العالم يسمع فعلًا، لو كانت له آذان حقيقية؛ لسمعنا ونحن نطرق جدران الوطن العربي الكبير منذ عشرات السنين.. بلا جدوى!

المصدر : التقرير 

زر الذهاب إلى الأعلى