تواصل الحرب السورية في سنتها الرابعة إنتاج مستويات جديدة من الوحشية. قُتِل ثلاثمئة ألف شخص وجرح عشات الآللاف. وترك أحد عشر مليون سوري، أو ما يقارب نصف السكان بيوتهم. وتحول أربعة ملايين إلى لاجئين في دول أخرى، فيما يُعد أكبر كارثة للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية. ومرت جرائم الحرب التي شملت استخدام الأسلحة الكيميائية دون عقاب. تم تجاوز الخطوط الحمر. وظهرت الدولة الإسلامية في العراق والشام كمنظمة إرهابية قاتلة.
وفي الوقت الذي يتنقل فيه المبعوث الأممي الخاص ستافان ديمستورا بين العواصم ومجموعات المعارضة للتوسط لوقف إطلاق النار، يواصل المجتمع الدولي وعلى رأسه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فشله في وقف الحرب واحتواء أزمة اللاجئين المتفاقمة. كما جذبت القوارب الغارقة في البحر الأبيض المتوسط، وجثث الأطفال الغارقين المرمية على السواحل وطالبو اللجوء الذين ماتوا خنقًا في شاحنة للنقل على أرض أوروبية، اهتمام الرأي العالمي بشكل مؤقت، إلا أنها فشلت كذلك في جمع دعم أخلاقي وسياسي كاف لتغيير مسار الأحداث. وحمالا تختفي الصور المريعة للأطفال الغارقين، سنعود إلى الرعب المستمر في سوريا.
بعد أربع سنوات من الحرب الإجرامية، هناك توافق عام على أن التسوية السياسية هي السبيل لإعادة السلام والأمن في سوريا. وبالنظر إلى وحشية نظام الأسد وسياسات الحرب، فإنه لا يبدو أن المفاوضات ستؤدي إلى نتائج من دون تغيير الديناميكيات الأمنية على الأرض. ليست هناك وصفة سحرية لإنهاء الحرب فورًا. لكن هناك قطعة من اللغز يمكنها إنقاذ حياة الأبرياء وإجبار نظام الأسد على القدوم إلى طاولة التفاوض وفق محددات جنيف 1 وجنيف 2.
هذه القطعة هي إنشاء منطقة آمنة في شمالي سوريا مع منطقة حظر للطيران لحمايتها، وهو الاقتراح الذي قدمته تركيا قبل عدة سنوات. وقد ساهم استمرار نظام الأسد بارتكاب المجازر بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة إلى جانب توسع تنظيم الدولة في جعل مُقترح المنطقة الآمنة أكثر أهمية من أي وقت مضى.
تشارك تركيا في حملة الضربات الجوية ضد تنظيم الدولة. وهذا سيساعد بالتأكيد في الحد من القوة القتالية للتنظيم. إلا أنّه لن يكون كافيًا لهزيمته. ولن يحفظ السوريين من القتل الذي يُمارسه نظام الأسد. وطالما يواصل النظام حربه الوحشية، فإن التنظيم وغيره من المنظمات سيجدون مرتعًا لهم في سوريا.
تكتسب فكرة المنطقة الآمنة للاجئين السوريين والمعارضة السورية مؤخرًا مزيدًا من الاهتمام، وكأنها بارقة أمل. كتب السفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد في التاسع من آذار/ مارس أن “قوات الأسد الأرضية والجوية استهدفت بشكل متكرر ومتواصل مجموعات المعارضة المعتدلة التي تقاتل تنظيم الدولة. إذا ما أرادت الإدارة (الأمريكية) أن ينجح هؤلاء بالفعل فإن عليها أن تواجه توسيع المهمة الجوية في سوريا. وإن حمايتهم تتطلب شكلًا من أشكال منطقة حظر الطيران، خطوة قاومتها الإدارة طويلًا”.
في الحادي والعشرين من نيسان/ أبريل الماضي، طلب أعضاء في مجلس الشيوخ من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري الرئيس أوباما بـ”إنشاء ودعم مناطق إنسانية آمنة في سوريا، وسط مخاوف دولية من الظروف الأليمة التي يواجهها ملايين المشردين بسبب الحرب”.
مؤخرًا، أخذ النقاش منحى عابرًا للمحيط الأطلسي مع دعم بعض الدول الأوروبية له. وفي التاسع من تموز/ يوليو الماضي، أشار نيكولاس بيرنز وديفيد ميليباند إلى أن “هناك حاجة لانتقال النقاش عن منطقة حظر طيران في سوريا لحماية المدنيين من “البراميل المتفجرة” المميتة لنظام الأسد من الشعارات إلى التفاصيل. مثل هذه المناطق من شأنها أن توفر حماية حقيقية (كما كانت الحالة مع أكراد العراق في تسعينيات القرن الماضي)، ولكن لا يمكن فصل القرار عن الصيغة الأوسع للتحرك تجاه تسوية سياسية في سوريا”.
ليست المقارنة محصورة بوضع العراق ما بعد حلبجة تحت حُكم صدّام. رسم وزير الخارجية البوسني السابق محمد ساكربي والممثل الخاص للمعارضة السورية لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة خطوطًا متوازية بين الحروب في البوسنة وفي سوريا ورأوا أن “وجود منطقة حظر طيران سيحفظ الأرواح ويساهم بإنهاء الصراع”. كما أشارا إلى أن “التدخل في البوسنة قد أنقذ الأرواح. وقلل من التطرف. وأدى في النهاية إلى إنهاء الصاع. يُمكن أن يوفر التدخل – بشكل منطقة حظر طيران – مكاسب شبيهة في سوريا من خلال إيقاف من يُعد الآن القاتل الأكبر للمدنيين السوريين: براميل الأسد الوحشية”.
يشير الدبلوماسي الأمريكي السابق فريدريك سي هوف إلى أنه “إذا كانت منطقة حظر جوية أوسع ستساهم في إنهاء أو شل قدرة نظام الأسد على إلقاء البراميل على المناطق السكنية للمدنيين خارج “المناطق الآمنة”، حينها سيتم إنقاذ الأرواح وحرمان تنظيم الدولة من مصدر أساسي للتجنيد”.
إنشاء منطقة حظر للطيران هو ضرورة سياسية وواجب أخلاقي في الوقت نفسه. لا تُساوي التعقيدات العملية شيئًا إذا ما قورنت بالأرواح التي يُمكن إنقاذها. كما ذكرت آن ماري سلوتر: “ستُظهر الولايات المتحدة وحلفاؤها من خلال إنشاء منطقة حظر للطيران للأسد أن صبرها قد نفد أخيرًا، وأنها مستعدة للدفاع عن السويين بداخل سوريا. هذا، إلى جانب إدارك أن جيشه يضعف وأن بركة المجنّدين الجُدد تنضب، كل ذلك سيدفعه إلى إعادة النظر في وضعه المستقبلي، وعلى الأرجح سيجبره على القدوم إلى طاولة المفاوضات”.
لقد آن الأوان لإدراك أن تهديد تنظيم الدولة لن ينتهي وأن أزمة اللاجئين التي تصل الآن إلى السواحل الأوروبية لن تُحل إلا إذا بُذِلت جهود جدية وملموسة لوقف حرب الأسد الدموية.
المصدر : ديلي صباح ، ترجمة ترك برس