مقالات

غازي دحمان – سفينة أوروبا وشاطئ الأسد

أما أن تعلن دول أوروبا عن مقاربة جديدة للحدث السوري، تعطّل فيها البند الأبرز في تشخيص الأزمة، وهو مصير نظام الأسد، بل وتعمل على تفعيل موقعه في التسويات المقبلة، فذلك بلا شك تطور خطير، وانعطافة سيكون لها أثر في مترتبات الصراع في المنطقة، ومسارات تشكّله التي لا تزال في حالة سيولة واندفاع، خصوصاً أنه يتزامن مع تطور على السويّة نفسها من الخطورة، يتمثل بالانخراط الروسي المباشر في تعقيدات الصراع.

المنطق الطبيعي أن ملامسة أوروبا النار السورية عبر أحد إفرازاتها، ومن خلال طوفان موجات اللاجئين علي حدودها، كان من المتوقع أن يحدث صدمة في الوجدان الأوروبي، وهي حصلت بالفعل، وكان متوقعاً على أساسها أن تنعكس تلك الصدمة الوجدانية جرأة في الفعل وعقلانية في المخرجات، كأن تعلن أوروبا أن الملك عار، وأن اللعبة يجب ألا تستمر وفق قواعد الاشتباك الحالية، وتذهب إلى اتخاذ إجراءات ملموسة وواضحة، في طريق إنهاء الفضيحة العارية التي تلم بشعبٍ يهيم على وجهه، لأن حاكمه قرر أن يحرق البلد ليبقى. لكن، من مكر التاريخ أن ذلك لم يحصل، بل حصل العكس، لماذا؟ 

ثمة توليفة “خلطة عجيبة” تقف وراء تصدير هذه الاستجابة الأوروبية، وتكشف صورة المشهد الحقيقية: أولها السحر الإيراني: الملاحظة اللافتة أن أوروبا في الغالب إما أنها تعلن عن مواقفها الجديدة من على منابر طهران، أو بعد فترة وجيزة من زيارة أحد مسؤوليها طهران، وبعد فترة اختمار يتم الإعلان عن هذا الاجتراح الأوروبي.

كل الذين زاروا طهران مسّهم السحر الإيراني، وللمصادفة، على أجندة استقبالات طهران، حتى نهاية العام، غالبية مسؤولي أوروبا، فهل سنجد أنفسنا، في نهاية الموسم، أمام صياغة جديدة للقضية السورية؟ ماذا يجري في إيران، وما الذي تطرحه على الأوروبيين في كواليس لقاءاتها بهم، حتى يُصار إلى تغيير مواقفهم بشكل كامل؟

هنا ثمة ملحوظة من الناحية التقنية، يتوجب الالتفات إليها، هي أن غالبية دول أوروبا حصلت من العرب، في السنة الأخيرة، على صفقاتٍ تفوق قدرة إيران على تقديمها بعقود من السنوات، لكن الفارق أن إيران تحوّل معطياتها الاستراتيجية إلى قيم مضافة، ما يجعلها تستفيد من عناصر ثرواتها بشكل أكبر، فهي تجعل المعطى الجغرافي وموقعها بين أوروبا وآسيا الوسطى ميزة استراتيجية وبديلاً محتملاً للطاقة، وتستثمر المعطى الديمغرافي “عدد سكانها” ميزة تسويقية، وتطرح مليشياتها وأذرعها بنية أمنية لتحقيق الاستقرار ومحاربة داعش، في حين أن العالم العربي يتبع مبدأ الصفقات الآنية التي ينتهي مفعولها عند لحظة قبض المستحقات وتوريد المنتجات.

الأمر الثاني، فتونة بوتين وخنوع أوباما: نجحت سياسات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين،

المغامرة في الموضوع السوري بدب الرعب في قلب أوروبا وإقناعها بالانعطاف نحو مواقف جديدة، خصوصاً بعدما أثبت للقارّة العجوز أنه مستعد للذهاب إلى أبعد الحدود، حتى لو أدى ذلك إلى التدخل المباشر، وهذا يعني، في الحسابات الأوروبية، زيادة منسوب تداعيات الأزمة، بما فيها دفع ملايين السوريين إلى الهجرة. وأمام ذلك، تحاول أوروبا التلفع برداء العقلانية، لتستر عجزها، خصوصاً أنّها تدرك أنّها باتت وحيدة بعد تخلي أوباما وخنوعه أمام الممارسات الروسية والإيرانية.

وهناك في الخلطة العجيبة، التذبذب العربي: عاينت أوروبا، أخيراً، الموقف العربي بدقة وتمعن، باستثناء دولة أو اثنتين. لا يوجد دولة عربية يعنيها رحيل نظام الأسد، وما يقال في جامعة الدول العربية، وعلى منابرها، مختلف عمّا يجري في أقنية العلاقات الثنائية، وما يتم إبلاغ أوروبا به، بل كثيراً ما يبدي الدبلوماسيون العرب استعداد أنظمتهم لإعادة تأهيل بشار الأسد واحتضانه، بذريعة الحفاظ على مؤسسات الدولة، بل ويذهبون إلى اتهام الثورة “التي لا يعترف أغلبهم بها” بأنها مسبب كل الويلات والمصائب، بما فيها النزوح والتهجير والدمار، ربما من سوء حظ السوريين وزيادة لتعاستهم نجاح الثورات المضادة في غالبية دول الربيع، ونهوض الدول المعادية للثورات، وتصدّرها الحراك العربي. وتبعاً لذلك، لن يكون الأوروبيون ملوكاً أكثر من الملوك أنفسهم.

ليست أوروبا جاهلة بحقيقة الوضع في سورية، ولا هي معصوبة العينين، وموقفها بالتالي ليس نتيجة قراءة خاطئة، ولا تقديرات غير دقيقة للأوضاع في سورية، بقدر ما هو قراءة واقعية للمواقف الانتهازية والمتذبذبة للإدارة الأميركية والدول العربية من جهة، والنزوع الفوضوي الإجرامي لدى روسيا وإيران، وكأن أوروبا تنزع إلى توليف معادلة جديدة، تستطيع فيها التخفيف من تداعيات الأزمة، ووقف احتمالاتها السيئة على حساب ما تعرف أنّه حقيقة، وما تؤمن به من قيم.

لكن، لا يعني ذلك أن هذه الانعطافة قد تغيّر ديناميكية الصراع، بحيث تحقق شرط خضوع السوريين لشروط نظام الأسد. سيكتشف الأوروبيون، بأنفسهم، أن الأسد نفسه لن يقبل شرط الخضوع الذي سيعتبره نوعاً من التقية، كما لن يقبل مقاسمة السلطة وإجراء انتخابات برلمانية، على ما يقول حليفه بوتين، ما يريده هو إفراغ كل المنطقة الداخلة في إطار تنظيم دولته الطائفية من العرب السنّة، فهذه المساحة، حسب قناعته وقناعة مشغّليه، صرفت من أجلها ثروات، وأنهار من الدماء، وأصبحت خارج المناقشات.

وما يمكن النقاش بشأنه هو نسبة التفريغ المحتملة في المناطق الحيوية المجاورة لتلك الدولة، والموافقة على تأسيس كيان بداخلها، ما يعني أن على أوروبا تجهيز نفسها لاستقبال ملايين، وليس مئات ألوف، طالما أن إيران تمد وبوتين يسد وأوباما لا يرد. 

المصدر : العربي الجديد 

زر الذهاب إلى الأعلى