العامل الثالث الذي أعاد موسكو إلى التشدُّد في دعم الأسد هو تطوُّر الوضع الميداني في سوريا. خلال الصيف بدا واضحاً أنه لا يستطيع أن يصمد طويلاً. ودفع ذلك المسؤولين الكبار فيها إلى إجراء حسابات جديدة. فالنهاية كانت تقترب بحيث إن لا أحد، بما في ذلك أميركا، بدا قادراً على ضمان النتائج.
فقرّر الرئيس فلاديمير بوتين، وبعد التأكد من أن الرئيس الأميركي باراك أوباما ضائع وسط كل ذلك، أن يندفع في دعم الأسد ولا سيما بعدما رأى أن انتظار نتائج التفاوض بين المعارضة المدنية السورية والنظام السوري سيكون عديم الجدوى. ومن ذلك فهمت موسكو أن “مصالحها السورية” لا يمكن أن تكون موضوعاً مستقلاً معزولاً عن طبيعة مستقبل نظام سوريا والقوى الناشطة فيها.
وفهمت أيضاً أن الوعود التي أُعطيت أو ستُعطى لها بالمحافظة على مصالحها بعد تنحّي الأسد والتي ستحدِّد شكلها المعارضة المسلّحة لن يتمّ الوفاء بها أو لن ترضيها. وصار التخلِّي عن الأسد عند بوتين مسألة حسابات استراتيجية. ولو رأى فرصة معقولة للمحافظة على مصالح بلاده ومصالح إيران في أي نظام بديل لربما كان فكّر جدِّياً وإيجابياً فيه. وفهمت موسكو أخيراً أن توسُّع “داعش” في الصيف وعدم معرفة واشنطن ماذا تفعل لوقف تمدُّد الإرهابيين أو لسحقهم يدفعانها إلى التصرُّف على النحو الذي شهدته المنطقة والعالم أخيراً.
أما العامل الرابع والأخير الذي أعاد موسكو إلى التشدُّد في دعم الأسد، استناداً طبعاً إلى الناشطين في مركز الأبحاث العربي الجدّي نفسه، فهو شلل أميركا في سوريا. إذ بدا واضحاً خلال الصيف أن إدارة أوباما لا تريد أن “تفعل” في سوريا أو لا تمتلك الإرادة لتحمُّل تبعات ما عليها أن تفعله.
فمن جهة فشل برنامج تدريب مقاتلين معارضين معتدلين للأسد الذي قرّرته واشنطن قبل أشهر. ومن جهة أخرى بدا أن أهداف أميركا المتناقضة لم تسهِّل وضعها مقاربة قابلة للتنفيذ. ذلك أنها أرادت إنجاز اتفاق نووي مع إيران، ودحر “داعش”، وضمان سقوط ناعم للأسد ونظامه، وتحضير قوة متجانسة صديقة للحلول مكانه، ومساعدة المعارضة، والضغط على اللاعبين الإقليميين للتفاهم على مستقبل واحد لسوريا. لكنها لم تعرف كيف تضع استراتيجيا لذلك.، فضلاً عن أنها افتقدت إرادة تنفيذها في حال وجودها.
إلى أين سيأخذ سوريا تزايد التدخُّل الروسي فيها؟
يأخذها في اتجاهات أربعة، يجيب الناشطون في مركز الأبحاث نفسه. الأول هو وفاة الحل السياسي. ذلك أن ما توافر من معطيات عنه لم يرضِ موسكو، إذ إنه ينصّ على رحيل الأسد وذلك مؤذٍ لمصالحها ومصالح طهران. والحل الذي “تلهّى” به الروس خلال الصيف لم يكن ليغيّر شيئاً في الوضع الحالي للأزمة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أي حل سياسي يهتم بمصالح روسيا ويُهمل مصالح إيران كانت موسكو سترفضه. والثاني التقسيم المحتوم (الواقعي) تقريباً لسوريا. ذلك أن الخطوة الأخيرة لبوتين نقلت المواجهة في سوريا إلى مستوى عالٍ لكون بلاده قوة دولية رئيسية، علماً أنه يدرك أن تصعيد الأزمة يفتح الباب أمام تدخُّل قوى مماثلة. لكنه قرّر خطوته ونفّذها برسم حدود “سوريا” التي تكاد تنحصر فيها المصالح الروسية والإيرانية، وهي تشمل الشريط الساحلي الغربي الذي تقطنه غالبية علوية، وتضاف إليه مناطق “حزب الله” في البقاع والجنوب. وربما يمهِّد ذلك لانتشار “القبعات الزرق” (أمم متحدة) بين سوريا الأسد وخامنئي وبوتين وسوريا الآخرين.
والاتجاه الثالث هو توسُّع “داعش” الذي سيُعقِّد جهود التوصل إلى حل سياسي ويُصلِّب موقف الأسد ويضاعف تصميم المعارضة المسلّحة على التخلُّص من الأخير. وربما يؤدي ذلك مع الخطوة الروسية إلى نوع من “التصالح الواقعي” بين سوريا – إيران – روسيا وسوريا الفصائل المسلّحة وحلفائها الإقليميين وغيرهم.
أما الاتجاه الرابع فهو استمرار الحرب في المستقبل المنظور رغم الهدنات المتقطعة من جرّاء “التصالح الواقعي” الذي لا يعني وقفاً للحرب. ووجود قاعدة عسكرية روسية في اللاذقية مؤشر إلى أن “نهاية اللعبة” المقبولة من موسكو وطهران هي تقسيم سوريا واقعياً مع سيطرة تامة للاثنتين على شريطها الساحلي الغربي.
هل حصلت موسكو على ضوء أخضر من أميركا لدفع سوريا إلى المصير المفصَّل أعلاه؟
لا أحد يجزم سواء نفياً أو تأكيداً، علماً أن البعض من المتابعين لا يستبعد ذلك.
المصدر : النهار