تدخل الأزمة السورية منعطفاً جديداً مع إقدام روسيا على تدخلها عسكرياً إلى هناك. وعلى الرغم من تذرعها بأن ذلك يدخل ضمن نطاق حماية أمنها القومي من خطر الإرهاب الذي تمثله الحركات الإسلامية المتطرفة، وفي مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية، إلا أن قرارها لا يمكن فصله عن التجاذبات الاستراتيجية التي تعرفها المنطقة، ما بدا جليا في استهداف طيرانها الحربي بعض فصائل المعارضة المسلحة، في مسعى دال منها لتغيير موازين القوى على الأرض، لصالح قوات النظام.
على ضوء ذلك، يبدو القرار الروسي ضمن معادلة إقليمية ودولية في غاية التعقيد، وخصوصاً مع انسداد آفاق الحل العسكري والسياسي. ميدانياً، وعلى الرغم من الدعم العسكري واللوجستي الكبير الذي قدمته إيران وحزب الله لقوات الأسد على امتداد الشهور الماضية، إلا أن ذلك لم يغير من واقع الأمر شيئاً، خصوصا مع المتغيرات التي عرفتها معارك ريف دمشق، أخيراً، ما الذي أثار مخاوف صناع القرار في روسيا من سقوط نظام بشار الأسد في أية لحظة، ما سيلحق، إن حدث، أضراراً كبيرة بمصالحها في المنطقة.
من هنا، يندرج تدخلها في سياق محاولة تعديل موازين القوى، بما يرجح كفة قوات الأسد، ثم فرض “أمر واقع” يجنّب، من جهة، النظامَ تسويةً سياسية تلقي الأسد خارج ترتيبات المرحلة الانتقالية، ويضمن لها، من جهة ثانية، فرض نفسها فاعلا أساسياً في صياغة هذه التسوية بما يضمن مصالحها، وفي مقدمتها قاعدتها البحرية في طرطوس على المتوسط.
ويتزامن ذلك مع معطيات إقليمية لا يمكن التقليل من شأنها. فالاتفاق النووي الإيراني رتب التزامات على طهران، تدفعها إلى إعادة ترتيب حساباتها في المنطقة، ما يقلص نسبياً من هامش مناوراتها، على الأقل في هذه المرحلة. كما لا يمكن إغفال الأسباب الاقتصادية التي تقف خلف قرار موسكو، من قبيل تأثير انخفاض أسعار النفط على اقتصادها، وسعيها إلى الحصول على منفذ على الخليج، يؤهلها لتكون فاعلاً مؤثراً على الساحة الدولية، ضمن سعيها إلى الدفاع عن مصالحها، والحد من هيمنة الولايات المتحدة.
يُضاف إلى ذلك أن هناك إحساساً في مختلف دوائر صنع القرار في موسكو بأن الروس قد خدعوا في ليبيـا، حين سمحوا لدول الناتو بالاستفراد بها، ونهب ثرواتها النفطية، والدفع بها إلى حافة الفوضى، وبالتالي، لا يمكن لهم أن يعيدوا الخطأ نفسه، مهما كلفهم ذلك من ثمن. لكن هذا قد يكون نصف الكأس الملآن. أما النصف الفارغ الذي ربما لا تراه موسكو، فيبدأ من “تمرير” المجموعة الدولية التدخلَ
العسكري الروسي، وضرب مواقع المعارضة المسلحة، والتسبب في سقوط ضحايا بين المدنيين السوريين، ما يعني أن الأمر يتعلق بمخطط تشترك فيه قوى إقليمية ودولية لجر روسيا إلى حربٍ تستنزفها على المدى البعيد، وتجعلها تخسر أوراقاً مهمة في مواجهتها مع الغرب. في ضوء ذلك، قد لا يكون “غموض” الموقف الأميركي بشأن الأزمة السورية إلا تكتيكاً من واشنطن وحلفائها لإنهاك الدب الروسي، عبر تشتيت قوته والحد من فاعليته.
بهذا، يعيد ما يحدث الآن في سورية إلى الأذهان السيناريو الأفغاني، حين تدخل الجيش الأحمر في نهاية عام 1979 لدعم الحكومة الموالية له في كابول، ما تحول إلى ورطة كبرى، استنزفت قواته هناك عشر سنوات في مواجهات ضارية، خاضها ضد تشكيلات المجاهدين الأفغان، المدعومين من الولايات المتحدة، قبل أن ينسحب، في نهاية الثمانينيات، بعد تكبده خسائر فادحة في العتاد والأرواح.
ولم يقو الاقتصاد المنهار، آنذاك، على تحمل الكلفة الباهظة لهذه الحرب، وقد كان لذلك تأثير كبير على سقوط الاتحاد السوفييتي، وتفكيك إمبراطوريته في أوروبا الشرقية، ونهاية الحرب الباردة. ولذلك، يبدي روس كثيرون معارضتهم تدخل بلادهم في سورية، ويعتبرونه دليلاً على إخفاق سلطوية فلاديمير بوتين في إدارة البلاد وحل مشكلاتها الداخلية المتراكمة، خصوصاً أن هناك أوليات اقتصادية واجتماعية تجعل هذا التدخل مفتقداً مبرره الموضوعي، ومقدمةً لنكسة مدوية تلوح في الأفق.
ربما تكون شراسة روسيا في الملف السوري غير محسوبة، وتفتقد خارطةَ طريق واضحة تربط بين أسباب التدخل بالمكاسب المحتملة. كما أن تواضع أدائها الاستراتيجي في مواقع أخرى من العالم، لا يسمح بالحديث عن رؤية واضحة ومتسقة لمواجهة أطماع الولايات المتحدة، خصوصاً في آسيا الوسطى، ما يضعها، بشكل أو بآخر، على درب سلفها السوفييتي.
المصدر : العربي الجديد