مقالات

أحمد أبازيد – عن الشفقة والقانون والشريعة

“نعم أنا كنتُ سلفياً جهادياً، وحُبست على هذه التهمة في سجون النظام، واليوم أستغفر الله وأتوب إليه وأعتذر لشعبنا أننا أدخلناكم في معارك دونكيشوتية كنتم في غنى عنها، أعتذر أننا تمايزنا عنكم يومًا، لأنني عندما خرجت من السجن الفكري الذي كنت فيه واختلطت بكم وبقلوبكم، قلت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق عندما قال (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)، أعتذر منكم أعتذر، وإن شاء الله قابل الأيام خير من ماضيها لثورتنا ولإسلامنا”.
أبو يزن الشامي، القيادي في حركة أحرار الشام الإسلامية، استشهد في 9/9/2014.

 
في آخر كلمة نُشرت للشهيد الحبيب (أبو يزن الشامي)، تكلم فيها بعفوية شجاعة – كما يليق بمن اعتذر من الشعب السوري عن أنه كان يوماً ما سلفيّاً جهاديّاً – عن ملاحظته على نقاشات الجهاديين (أو الإسلاميين حسب التفريق المنتشر والمضلل ما بين إسلاميين وجيش حر) في الفضاء الافتراضي، يقول إنه راجع صفحته وصفحات الرموز المعروفين من حركة أحرار الشام أو غيرها ضمن الوسط الجهادي، فلم يجد كلاماً عن مآسي الناس أو أشلاء المجازر أو آلام النازحين، لم يجد وجدان الآلام، أو الشفقة المعلنة، وإنما كل “نقاشاتنا” عن شكل الدولة والعقيدة والعلمانية وهذا الكلام.

وقالها كطرفة محزنة ومنبّهة طبعاً على هذه المسافة مع قضية الشعب والواقع نفسه، والفارق بين ما يشغل الجهاديين والسلفيين وما يشغل عموم الثوار والشعب نفسه المشغول برحلة الآلام.

(كتنويه ضروري: لا شك أن تأثر الحركة بالسلفية الجهادية تضاءل بشكل مستمر بالتوازي مع الانزياح الثوري والإصلاحي الذي شهدته مع القادة الراحلين وقد كتبتُ عن الحركة مادتين تشكلان إضاءة على دينامية التحول والتنوع داخل الحركة: “يوم استشهد الأحرار” المنشورة في منتدى العلاقات العربية، و”أحرار الشام بعد عام طويل” المنشورة في مركز عمران للدراسات، وليس هدف هذا المقال الحديث عن الحركة).

تقول حنه أرندت (التي أدين لها بملء أسابيع بل أشهر طويلة من هذه السنة) أنه منذ الثورة الفرنسية (1789) أصبحت “الشفقة” هي السمت والدافع الرئيس لرجال الثورات، وهذا ينطبق بلا شك على ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، الشفقة على من يكابدون الظلم والفقر والعجز، والتعاطف/ التماهي اللامحدود مع “المعاناة” البشرية، ولكن هذا الأمر لم يكن هو نفسه في الثورة الأميركية السابقة عليها، حيث لم تعرف أميركا “المعاناة”، بقدر ما كانت بلد الحلم السعيد بالوفرة حيث لا يعرف الناس الفقر (ترى حنه أن وجود هذا النموذج كان أحد المحفزات العميقة للثورات الأوروبية، يمكن قول الأمر نفسه عن الربيع العربي ضمن سياقاته الخاصة، والذي كان ضمن نتائجه أو مآلاته التصاعد الدراماتيكي في البروباغندا العدائية للغرب وموجات اللجوء إليه في الوقت نفسه)، ولذلك لم تكن الثورة الأميركية ثورة المعاناة بقدر ما كانت تمثل نموذج الثورة القانونية، ثورة الحقوق التي تمتد جذورها إلى الماغناكارتا في إنكلترا القرن الثالث عشر أو ثورة القراء في العراق القرن الهجري الأول، ولكنها تجد أساسها الملهم في روما القرون الأولى.

ولذلك لم يكن انتصار الثورة الأميركية إلا إعلان وثيقة الدستور، وليس هزيمة قوات الامبراطورية البريطانية، ولا نصب المشانق لحكام العهد السابق أو الثوار الخائنين (كما فعل روبسبيار فيما بات يعرف بعهد الإرهاب).

ورغم التشابه ما بين حقوق الإنسان المقدسة التي توجبها طبيعة البشر وتضمنها كلمة الله في الدستور الأميركي، وما بين حقوق الإنسان في الحرية والعدالة والمساواة في الثورة الفرنسية، إلا أن ما كان ذا دلالة على لائحة قانونية وتنظيمية وهيكلية إدارية مفصلة للدولة في أميركا، كان شعاراً تعبوياً للسلطة والشعراء في فرنسا، وباسم “الإرادة العامة” أو إرادة الشعب التي اقتبسها روبسبيار من الرومانتيكي الحالم جان جاك روسو، تم قمع الشعب نفسه، لأنه لم يحمل مدلولاً قانونيّاً وإجرائيّاً محدداً كالانتخابات أو أغلبية مجلس الشيوخ مثلاً.

هل أن السلفية الجهادية أو التيار الجهادي المعولم أو تنظيمات الإسلام السياسي (مع فارق الدرجة بين هذه التصنيفات) نتيجة ضمور “الشفقة” لصالح “التشريع” كدافع للصراع، تنتمي إلى نموذج الثورات القانونية السابق على “ثورات المعاناة” كما تمثلت في الثورة الفرنسية؟
إحدى خيانات المثقفين الشائعة هي البحث عن جذور أعمق لموضوعاتهم، والسعي لمنح هذه الموضوعات غايات أخلاقية كلية قد لا تنتمي إليها ولا يقتنع بها الفاعلون أنفسهم بالضرورة، وهذا نتيجة التوهم المثير للشفقة أن قيمة الباحث تتعلق بقيمة موضوعه، فيسعى دوماً إلى تضخيم حجم وخطورة هذا الموضوع، وكثير ممن يكتبون عن داعش كخط مواجهة للكولونيالية والامبريالية وتصحيح أوضاع السنة في المشرق العربي (…الخ… الخ…. الخ) هم كذلك.

في الحقيقة الموضوع هنا شائك قليلاً، ولا يمكن تعميم حكم فيه، ولا تعميم حكم “غياب الشفقة” هذا، فما يغيب في التداول ليس ذاته ما يغيب في الشعور أو دوافع الأفعال، خاصة أن مظلومية المسلمين ما زالت تمثل البداية الأكثر شيوعاً لمبررات النفير للقتال (ولكن استمرار هذا الدافع يحتاج مبرراً أقوى لاحقاً يتمثل بتحكيم الشريعة)، عدا عن التنوع الكبير الذي تخفيه هذه المصططلحات الجامدة.

لا أريد هنا الإسهاب كثيراً في هذا الموضوع، ولا غايتي منح جواب نهائي عنه، ولكن الملاحظ أن “تطبيق الشريعة” ليس مفهوماً قانونيّاً هنا ولا تشريعياً ولا شرعياً حتى، بقدر ما هو شعار تعبوي في خدمة الاصطفاف السياسي المطلوب، وليس ذا مدلول إجرائي أو غاية تشريعية، لأنه محض شعار يدل على وجود كفر نريد محاربته بتحكيم الشريعة، وتحكيم الشريعة هنا لا يستحضر المدونات الفقهية الكبرى (الأم أو المبسوط أو المجموع…الخ) ولا المجلة القانونية العثمانية ولا القانون العربي الموحد ولا حتى “التشريع الجنائي في الإسلام” لعبدالقادر عودة، بقدر ما هو “كلام” عن تطبيق الحدود ونشر النقاب وهدم القبور وبعض الصور والاستيهامات التاريخية مثلها.

واعتراض “ثورات الشريعة” هذه على السعودية كاشف لهذه المفارقة، والموقف من السعودية أحد الامتحانات الأكثر ذيوعاً لحيازة شرعية في التيار الجهادي (السلفي/ المعولم)، لأن الاعتراض على السعودية هو العلاقة بأميركا، وليس تطبيق القانون، الذي يمثل الصورة المطابقة (بل الملهِمة) لتحكيم الشريعة كما يتخيلونه حسب “الشرعية النجدية” التي تصبح مقياساً لإسلام المجتمعات، وإن بشكل أكثر حِرفية وتأصيلاً وعلمية بأضعاف مقارنة بالخبرات الشرعية الضئيلة في التنظيمات السلفية الجهادية عامة.

في الحقيقة ما زلت أظن أن هذا الشعار “تحكيم الشريعة” هو من أكثر الشعارات تضليلاً عن مفهوم الشريعة نفسه، وعن الالتفات لإشكاليات التشريع ونقاشاته الحقيقية، عدا عن أنه يمارس ذات النقلة القاتلة في تفكيرنا من “الخطر الحقيقي على المسلمين” إلى “الخطر المتوهم على الإسلام”.

إن انتقال شعار تنظيم القاعدة في سورية (جبهة النصرة) من “جبهة النصرة لأهل الشام” إلى “ما خرجنا إلا لنصرة هذا الدين” دلالة على هذه النقلة.

وإن استثنينا “الجيش الحر” والفصائل الثورية بعامة، وهو المفهوم الذي يجمع الفصائل الثورية التي لم تنتم إلى السلفية الجهادية أو التيار الجهادي المعولم وما زالت تتبنى قضية الثورة السورية وإسقاط النظام المجرم لا قضية تنظيمها الأيديولوجي المغلق، وهذه الفئة هي الغالبة على القوة المقاتلة في الثورة السورية وعلى قوتها الناعمة أيضاً التي تتمثل في أنصارها وداعميها ومجالها الرمزي، رغم أن التأثر بالمزايدات السلفية الجهادية قد وصل إلى هذه الفئة أيضاً..

فكأننا لم نعد نعبأ بالظلم الذي يقع على الناس، لم يعد الألم والدم البشري المسفوح على الطرق يشكل دافعاً حقاً للقتال، ولا مبرراً كافياً له، وليس لدينا مشروع قانوني واضح – ولا غير واضح – يتضمنه شعار “تطبيق الشريعة” بالمقابل لنناضل لأجله.

مرتكزات هذا الخطاب أو السايكولوجيا الجهادية إذن أن هوية الإسلام هي المهددة، والنظام العالمي البديل عن الخلافة والمهيمن على دول المسلمين وحقوقهم هو العدو، ولا شك أن مظلومية المسلمين في أنحاء العالم تشكل الدافع الأبرز للتوجه نحو الجهاد، ولكن تطبيق الشريعة كغاية تضمن استمرار هذا الدافع و “قطف ثمرات الجهاد” إضافة إلى “التهديد الدائم” على الإسلام نفسه سيجعل من المسلمين و”الإسلاميين” المنافسين عقبة وعدواً في هذا الطريق.

أين يقع هذا الشكل المتداخل والمتعدد للتنظيمات الجهادية التي تحمل لواء ثورات الشريعة ضمن نماذج الثورات في التاريخ إذن؟ .. يقع عندنا، والآن، وهذا المهم.

 
المصدر : العربي الجديد 

 

زر الذهاب إلى الأعلى