قبل أن يزج بوتين بأسلحته في سوريا لا بد أنه استرجع الذاكرة الروسية في أفغانستان. الأوجاع التي لا تزال تلازم مفاصل الكرملين منذ تلك التجربة المرة تجعل القيصر يفكر مرتين قبل تكرارها. المقتلة السوفياتية في عنق آسيا وقعت بعدما دخل الجيش الأحمر وضيّع طريق الخروج. الأمر نفسه قد يتكرر في سوريا إذا طال الوقت ولم تظهر النتائج المرجوة.
محو المحنة الأفغانية من الذاكرة الروسية لا يكون إلا بتجربة ناجحة في سوريا. سياسة الأرض المحروقة التي طبّقها الجنود الحمر في أفغانستان لم تجنّبهم طعم الخسارة المرة. التفوق العسكري وحده لا يحقق نصراً في بلاد غريبة منقسمة على نفسها، نصف أهلها يقاتلون النصف الآخر وكل منهما يستجدي أجنبياً للاستقواء به على شريكه في الوطن. والمتدخل الأجنبي لا يفرض احترامه وحلّه على الجميع الا بتقديمه تسوية مقبولة لدى طرفي الصراع، لئلا يصير محتلاً مرذولاً لدى النصف الآخر وداعميه الأجانب.
الروسي لم يضيع وقتاً في سوريا، أطلق مسارين في وقت واحد، عسكرياً لإظهار القوة، وسياسياً بحثاً عن حل وتسوية. ما يجمع النظام والمعارضة ضرورة التخلص من إرهاب “داعش”، وما يفرقهما كثير أبرزه مصير الأسد في سوريا المستقبل. الاتفاق بين الطرفين يعبّد الطريق لطرد الإرهاب. خريطة الطريق الروسية للحل وضعت على الورق، بعضها صار معروفاً والآخر لا يزال مستوراً.
الأولوية الروسية هي لإعادة توحيد الجيش بعد انهياره لئلا يتكرر في سوريا ماحصل في العراق وليبيا على أن تتولى وزارة الدفاع الأقلية العلوية لطمأنتها وباقي الأقليات. لكن هذه المؤسسة لا تكون لكل السوريين إلا بإعادة الضباط المنشقين إليها، وهذا ما يفسر اقتراح لافروف التعاون مع فصائل “الجيش السوري الحر” ودمجهما بالجيش النظامي لمحاربة الإرهاب معاً تمهيداً للتوحيد.
وعديد “الحر” قد يوازي عديد النظامي وربما تجاوزه. وبات من المسلّم به أن يحظى رئيس الوزراء المقبل الذي يمثل الأكثرية السنية بصلاحيات فعلية ومؤثرة على حساب صلاحيات الرئيس العلوي، على غرار ما هو الوضع في العراق. لكن العقدة لا تزال هوية وزير المال الذي يوقع موازنة الدفاع والأمن. أما العقدة الكبرى فهي الرئيس الحالي: هل يرأس المرحلة الانتقالية؟ هل يحق له المشاركة في الانتخابات المبكرة التي تريد موسكو إجراءها؟
موسكو تكرر أن الشعب السوري هو وحده من يختار رئيسه، لكنها تدرك أن ساعة الرمل التي جعلتها توقيتاً لعمليتها السورية تكاد تنفد، لأسباب عدة منها ما هو اقتصادي ومنها الخوف من جرها إلى الرمال المتحركة، فإما أن تسوّق حلاً مقبولاً لدى الجميع لهذه المعضلة أو أن تغامر بنفسها وتصير هي المعضلة.
المصدر : النهار