ليس لأن الأميركيين يقولون إن روسيا تخاطر بالغرق في «المستنقع السوري» بل لأن ما اتضح٬ بعد نحو شهر من تدخلها العسكري في سوريا٬ هو أن موسكو لم تدقق في الأمور جيًدا عندما اتخذت هذا القرار٬ وإْن هي بقيت تأخذها العزة بالإثم ولم تتحَّل بالجرأة المفترضة والمطلوبة لمراجعة حساباتها وتتدارك أمورها قبل أن يطفح الكيل٬ فإنها بالتأكيد ستجد نفسها أمام واقع كالواقع الذي ترتب على الغزو السوفياتي لأفغانستان والذي أدى في حقيقة الأمر إلى انهيار الإمبراطورية السوفياتية التي كانت٬ عندما قامت بتلك المغامرة المكلفة٬ قد نخرها التسوس من الداخل وكانت بانتظار مثل تلك الخطوة الانتحارية لتنتهي إلى تلك النهاية المأساوية.
نحن نعرف أن الأميركيين لا «يضربون الودع» عندما يلجأون إلى تحذير روسيا من المخاطرة والغرق في «المستنقع الروسي»٬ فالولايات المتحدة التي لا تزال٬ رغم كل ما أصابها من إعياء في عهد هذه الإدارة٬ إدارة باراك أوباما٬ خاصة في الشرق الأوسط٬ وبالنسبة لسياستها الخارجية بصورة عامة٬ُتعتبر القوة الأعظم٬ وهي كذلك فعلاً٬ ولذلك فإنه غير مستبعد٬ بل ربما مؤكد٬ أنها قد استدرجت الرئيس فلاديمير بوتين استدراًجا لهذه المغامرة الانتحارية غير المحسوبة العواقب٬ التي من الواضح أنها ستكون مكلفة جًدا في ضوء أن موسكو بسبب أوضاعها الاقتصادية المتردية وأوضاع حليفيها؛ إيران ونظام بشار الأسد٬ الأكثر تردًيا غير قادرة على الاستمرار في الإنفاق على حرب ستكون مكلفة بالفعل٬ والمؤكد أنها ستصبح أكثر تكلفة إن هي تحولت إلى حرب برية على غرار ما فعله الاتحاد السوفياتي في أفغانستان.
في آخر تصريح له في هذا المجال قال مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) جون برينان٬ «إنه لا استراتيجية واضحة للرئيس بوتين في سوريا»٬ والواضح أن هذا التقدير ليس بعيًدا عن الحقيقة٬ فما جرى منذ بداية التدخل العسكري الروسي في هذه الدولة العربية٬ التي بقيت تتعرض على مدى أكثر من أربعة أعوام إلى تدمير منهجي وقتٍل وتشريٍد لشعبها من قبل هذا النظام الاستبدادي٬ نظام بشار الأسد٬ يدل على أن حسابات موسكو عندما اتخذت قرارا بهذه الخطوة لم تكن دقيقة٬ وعلى أنها كانت تظن أن المعارضة السورية هي مجرد نمر من ورق٬ وأنها سترفع رايات الاستسلام بعد أول موجة غارات جوية تنفذها القاصفات الروسية الاستراتيجية في إدلب وحماه وحمص.. وأيًضا في حلب.
الآن وبعد أن ثبت أَّن حسابات الحقل بالنسبة لروسيا تختلف عن حسابات البيدر وأنه بالإمكان معرفة البدء في الحرب وأي حرب٬ لكنه لا يمكن معرفة كيفية إنهائها٬ خاصة كهذه الحرب التي هي حرب غارات جوية على مقاتلين غير ثابتين على الأرض٬ أي حربُغوار٬ فإنه أصبح في حكم المؤكد أن الروس ورغم مكابرتهم ومناكفاتهم في اجتماع «فيينا» الأخير باتوا يدركون ويعرفون أنه ليس بإمكانهم الاستمرار في هكذا حرب مكلفة قد تتواصل لعشرة أعوام أو أكثر وأنه بالتالي لا بد من «مساومة تاريخية» تحفظ لهم ماء الوجه وتحافظ ولو على بعض مصالحهم التي يرون أنها مشروعة مقابل حٍّل معقول يستند إلى «جنيف٬«1 وعلى أساس أنه لا مكان إطلاًقا لبشار الأسد في مستقبل سوريا ولا وجود له في هذا الحل ولا أي حًّل آخر إلا حل المغادرة والرحيل.
وربما.. ربما أن هذا هو ما قصده مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) جون برينان٬ عندما أعرب عن ثقته٬ في تصريح له يوم الثلاثاء قبل الماضي٬ بأن الروس يريدون في نهاية المطاف رحيل بشار الأسد لإيجاد حٍّل للنزاع المحتدم في سوريا. لكنه٬ أي برينان٬ تساءل: لكن «متى وكيف سيتمكنون من دفعه للرحيل»؟! وأضاف خلال مؤتمر في واشنطن حول الاستخبارات حضره رئيس الاستخبارات الفرنسية: «رغم ما يقولونه٬ أعتقد أن الروس لا يرون الرئيس السوري في مستقبل سوريا.. أعتقد أنهم يدركون أَّن لا حَّل عسكرًيا في سوريا وأن هناك حاجة إلى نوع من عملية سياسية»٬ وأْردف قائلاً: «والسؤال يكمن في متى وكيف سيتمكنون من دفع الأسد للخروج من المشهد!».
أضاف: «المفارقة أنهم يعتقدون أن عليهم أولاً تقوية الأسد قبل أن يصبح بالإمكان إزاحته.. إن روسيا تريد بداية الحصول على مزيد من النفوذ والتأثير في سوريا قبل أن تذهب باتجاه عملية سياسية تحمي مصالحها في هذا البلد.. إن هدف موسكو الأول كان أن تخفف عن قوات الرئيس السوري الضغط الذي تتعرض له من فصائل المعارضة المسلحة في مناطق إدلب وحماه وحمص.. لكن الروس اكتشفوا أن تحقيق أي تقدم ضد هذه المعارضة أصعب كثيًرا مما كانوا يتوقعون».
وهكذا واستناًدا إلى هذه التوقعات٬ التي ما دام أنها صدرت عن مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) فإن المفترض أن تكون أقرب إلى المعلومات المؤكدة منها إلى التكهنات٬ فإنه يمكن الاتفاق وبسهولة على أَّن أيام بشار الأسد غدت في حكم المعدودات وأن الروس لا يمكن أن يستمروا في الرهان على حصان يعرفون سلًفا أنه خاسر لا محالة٬ وبالتالي فإن كل ما يريدونه هو استعمال الأزمة السورية واستخدامها كورقة لاستعادة مكانتهم الإقليمية والدولية التي تدنت وتراجعت كثيًرا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية التي التحقْت بعض دولها بحلف شمال الأطلسي وحيث هناك دول أخرى تسعى لمثل هذا الالتحاق ومن بينها الجبل الأسود (مونتنيغرو).
وحسب تقديرات كثيرة فإن الروس إْنُهْم ضمنوا ولو الحد الأدنى من مطالبهم التي تشمل الحفاظ على قواعدهم العسكرية في «حميميم» قرب اللاذقية٬ وفي طرطوس٬ وعلى وجودهم العسكري في البحر الأبيض المتوسط (المياه الدافئة)٬ وأيًضا على بعض التنازلات الأميركية بالنسبة لأزمة أوكرانيا والقْرم٬ وفي بعض دول أوروبا الشرقية٬ فإنهم سيكونون جاهزين حتى لإقصاء إيران من لعبة الشطرنج السورية٬ وحتى للتخلي عن بشار الأسد مع الاحتفاظ بنفوذهم الحالي والسابق في هذا البلد الذي يعتبر ضرورة استراتيجية بالنسبة لموسكو٬ من خلال الاتفاق على أن تكون القيادة البديلة في المرحلة الانتقالية وبعدها غير معادية للمصالح الروسية في هذا البلد الذي تعود علاقاته مع موسكو في زمن الاتحاد السوفياتي إلى عام 1949 في عهد حسني الزعيم٬ الذي لم يصمد عهده أمام النزعة الانقلابية التي كانت في ذروتها في ذلك الحين إلا لفترة قصيرة جًدا.
وهنا٬ فإن المؤكد أن بشار الأسد يعرف هذا كله٬ ويعرف أَّن ما فشل فيه جيشه٬ الذي كان قوامه أكثر من 400 ألٍف من الجنود والضباط٬ والذي تضاءل خلال الفترة منذ انفجار الأزمة السورية في عام 2011 وحتى الآن٬ إلى أن أصبح أقل من ربع هذا العدد٬ لا يمكن أن تنجح فيه الطائرات الروسية التي ينطبق عليها بيت الشعر العربي القائل: كناطٍح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعُل إنه غير مستغرب ولاُمستبعد أن يبقى بشار الأسد يسبح ضد التيار٬ وذلك رغم أن المفترض أنه أُبلغ بـ«العلم اليقين» في زيارته الأخيرة إلى موسكو٬ التي كانت عبارة عن «َجْلٍب» و«استدعاٍء».
ولذلك فإننا نرى أنه مستمر في عزف مقطوعة أن الخيار الوحيد هو بينه وبين «داعش» وأنه قبل الحديث عن أي حٍّل سياسي لإنهاء النزاع المستمر منذ أكثر من أربعة أعوام لا بد من القضاء على التنظيمات الإرهابية٬ وبالطبع فإن المعني بالتنظيمات الإرهابية هو الجيش الحر والمعارضة «المعتدلة»٬ وليس هذا التنظيم الإرهابي الآنف الذكر الذي تم اختراعه مبكًرا لمثل هذه الغاية.
المصدر : الشرق الأوسط