موقع WorldJewishDaily.com هو الوريث، الإلكتروني، للمجلة الشهرية الشهيرة World Jewish Digest، التي كانت تصل إلى 240 ألف قارىء، وتفاخر بأنها «كشكول» أخبار اليهود، والقضايا اليهودية، في أربع رياح الأرض. وقبل أيام قليلة نشر الموقع مراسلة بتوقيع الصحافية الأمريكية ماكسين دوفير، تتساءل فيها عمّا إذا كان يهود سوريا في أمان.
وإذْ تقرّ، منذ السطور الأولى، أنّ حياة هؤلاء اليهود كانت «مستقرة» في عهد بشار الأسد، والنظام يتولى حماية بيوتهم وأملاكهم، فلا يتعرضون للذبح على الأقلّ؛ فإنها من جانب آخر، تخشى على حياة عدد يقلّ عن 100 فرد، معظمهم كبار في السنّ. لا غبار عليها في هذا، بالطبع، ما خلا أنها لا ترى أي ارتباط بين مصير هؤلاء العشرات، بمعنى المأمن البسيط على الحياة، ومئات الآلاف من سكان دمشق، وحلب، والقامشلي… مواطن يهود سوريا، منذ أن لجأوا إلى البلد من إسبانيا، في القرن الخامس عشر.
لا غبار عليها في هذا، بالطبع، ما خلا أنها لا ترى أي ارتباط بين مصير هؤلاء العشرات، بمعنى المأمن على الحياة، ومئات الآلاف من سكان دمشق، وحلب، والقامشلي… مواطن يهود سوريا، منذ أن لجأوا إليها من إسبانيا في القرن الخامس عشر. كذلك فإنها تجزم ـ اتكاءً على قناعة شخصية، وكذلك على استطلاع آراء بعض اليهود السوريين المقيمين في أمريكا ـ أنّ أيّ نظام سيعقب حكم آل الأسد، لن يكون متسامحاً مع اليهود كما فعل بشار، وأبوه من قبله: «كل شيء جيد» بالنسبة إلى اليهود في سوريا، يقول لها جاك أفيتال، ممثل اليهود السوريين في نيويورك؛ ويتابع: «الأسد سوف يبقى 20 سنة أخرى… إنه ليس مبارك، وليس القذافي، الأسد رجل شريف و95٪ من السكان يساندونه، وسوف يحمونه»!
لكنّ دوفير تتساءل: كيف يستقيم أنّ هذا النظام، الذي يذبح الشعب السوري لأنه طالب بالحرية، هو ذاته النظام الذي يدعو الحاخام يهوشوا بنتو، أو الحاخام إيلي عبادي، لزيارة الجالية اليهودية في سوريا؟ ألا يشعر 75 ألف يهودي أمريكي، من أصل سوري، بتناقض فاضح بين هذه الشفقة على مواطني سوريا اليهود، وتلك الوحشية ضد مواطني سوريا الآخرين؟ لا تناقض، يجيبها أفيتال نفسه: «اليهود من أصل سوري يؤيدون الأسد، ويعتبرونه أفضل رئيس ممكن بالنسبة إليهم». ويستذكر أفيتال أنّ النظام وجّه «دعوات كريمة» إلى قادة اليهود السوريين، فقام هو شخصياً بزيارة دمشق مرّتين، سنة 2004 و2006؛ وحتى في ذروة «الأزمة»، كان سفير النظام في واشنطن، عماد مصطفى، بالغ السخاء في تكريم الحاخام بنتو.
لعلّ المرء بحاجة، هنا، إلى بعض التدقيق الأكاديمي، التاريخي والعلمي لواقع يهود سوريا؛ وقد يكون من الخير اللجوء إلى البروفيسور يارون هاريل، أستاذ التاريخ اليهودي في جامعة بار إيلان؛ الذي قد يكون، اليوم، الاختصاصي الأبرز في شؤون يهود المشرق العربي عموماً، ويهود سوريا بصفة خاصة. لائحة مؤلفاته تدلّ على نطاق اهتماماته: «المكيدة والثورة في صفوف يهود دمشق وحلب وبغداد، 1744ـ1914»؛ و»أسفار حلب: الأدب الحاخامي لأعلام حلب»، و»يهود حلب: تاريخهم وثقافتهم»؛ وأخيراً «تحوّل يهود سوريا، 1840ـ1880»، الذي صدرت ترجمته إلى الإنكليزية سنة 2010. وأياً كانت مظانّ المرء في شخص هاريل المؤرّخ، أو في أعماله، فإنّ خياراته المنهجية تُعدّ المثال النقيض للغالبية الساحقة من الأبحاث الإسرائيلية، وغالبية الأبحاث الأوروبية، حول يهود سوريا تحديداً.
فالشائع، في مستوى أوّل، هو التطبيق الميكانيكي لمقولات أوروبية مكرورة، وتنميطية، عن سابق قصد وتصميم، حول قمع اليهود في البلدان العربية؛ إلى درجة الحديث عن «تطهير عرقي» ضدّهم (كما حدث قبل سنوات، ليس بلسان صهيوني موتور، بل بقلم جيفري ألدرمان، البروفيسور البريطاني البارز ونائب رئيس الجامعة العابرة للقارّات في لندن، في ردّ على عمدة لندن السابق كين لفنغستون). المستوى الثاني هو الدمج الخبيث، عن سابق قصد وتصميم هنا أيضاً، بين الحاكم والمحكوم، وبين السلطة والشعب، بحيث يجري تأثيم سوريا الشعب والبلد والثقافة قبل، وربما أكثر من، نظام الاستبداد الذي يحكم شعبها.
تلك استراتيجيات، لأنها ليست محض تكتيكات، يُراد منها التعتيم على الحقيقة الأخرى، الكبرى: عجز الجاليات اليهودية عن الاندماج في أية ثقافة وطنية، شرقية أو غربية؛ والعزوف عن بلوغ درجة عالية، أو كافية، من حسّ المواطنة والمشاركة المجتمعية، ورفع الولاء لإسرائيل فوق كلّ ولاء. والمرء يتذكّر ذلك الإعلان الذي واصلت «رابطة مكافحة الإفتراء» الأمريكية الصهيونية نشره في صحيفة «نيويورك تايمز»، والذي يقول: «سوريا تحتجز اليهود ضمن أقسى الشروط… في عقر دارهم»؛ في اليوم ذاته الذي شهد لقاء حافلاً جمع حافظ الأسد وإبراهيم حمرا، كبير حاخامي يهود سوريا آنذاك، ليس في القصر الرئاسي، بل في… بلدة القرداحة، مسقط رأس الأسد!
في ربيع العام ذاته، 1992، قال الدكتور نسيم حاصباني، الطبيب خرّيج جامعة دمشق والناطق الرسمي باسم يهود سوريا في حينه، إنّ مغادرة قرابة 700 يهودي، على إثر قيام السلطات السورية برفع قيود السفر عنهم، «ليست خروجاً، بل حيازة لحقوقنا». ونقلت رويترز عن حمرا قوله إنّ «التغيير الهائل» في التفكير السوري جاء في أعقاب اجتماع بين الأسد الأب والمجلس اليهودي السوري، في مناسبة قيام الوفد بتقديم التهنئة بالولاية الرئاسية الرابعة. وقال الحمرا: «كلّ ما طلبه الوفد، نفّذه الرئيس الأسد».
وذات يوم كانت منظمة العفو الدولية قد أطلقت حملة واسعة للإفراج عن عشرة يهود، احتُجزوا وهم يزمعون مغادرة سوريا خلسة إلى إسرائيل. وخلال أقلّ من سنتين بعدها، تمّ إطلاق سراح أربعة منهم، وحُكم على أربعة آخرين بالسجن سنتين جرّاء اعترافهم بالتخطيط لرحلة إسرائيل، وبقي اثنان منهم دون محاكمة حتى أفرج عنهما في مناسبة الولاية الرئاسية الرابعة. آنذاك، كان آلاف المعتقلين السياسيين السوريين يقبعون في سجون النظام دون تهمة أو محاكمة، بعضهم منذ 20 سنة (القيادة البعثية السابقة)، وبعضهم منذ 15 سنة (مختلف مجموعات الإخوان المسلمين)، أو 12 سنة (قيادة وأعضاء «الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي»)، و10 سنوات (قيادة وأعضاء «حزب العمل الشيوعي»)، فضلاً عن الناصريين والبعثيين (قيادة قومية) ومجموعات من العرب الفلسطينيين والأردنيين واللبنانيين…
وذات يوم، أيضاً، كان كريستوفر هتشنز، الصحافي المعروف الراحل، قد تجشّم عناء السفر إلى دمشق ليتأكد بنفسه من أنّ حكاية تأييد يهود سوريا لحافظ الأسد لم تكن فبركة إعلامية رسمية، أو مظهر نفاق ذاتي ناجم عن الخوف أو الضغط. ولقد وقف في «الشارع المستقيم» دون سواه، طريق دمشق الأشهر الذي شهد تحوّل شاول (ملك اليهود المتعطّش للدماء) إلى بولس الرسول (حامل رسالة يسوع إلى آخر أرجاء المعمورة)؛ وشهد بأمّ عينيه مرور التظاهرة اليهودية التي تصدّرها الحاخام حمرا، ورُفعت فيها لافتات تفتدي الأسد بالروح وبالدم. وبعد أن اجتمع بأقطاب يهود سوريا على حدة، بعيداً عن الرقباء والعسس، خرج هتشنز بالنتيجة التالية: إنهم يحبّونه كما يحبّه أيّ بعثي، وأكثر أحياناً!
فلماذا لا يحبون وريثه مثله، أو أكثر؛ هو الذي يقيم الولائم لحاخاماتهم، وسبق له أن صافح رئيس إسرائيل علانية، ويقتفي درب أبيه في حماية الاحتلال الإسرائيلي في الجولان؟ ولماذا لا يساندونه رئيساً، إلى الأبد، أو… حتى خراب البلد!
المصدر : القدس العربي