يشكل اللجوء حالة ضعف إنساني مأساوية، فاللاجئ يجد نفسه، بسبب أخطارٍ تهدده، يغادر بلده إلى بلد آخر، مجرداً من كل شيء، فاقداً أي حماية، يعيش في أرض غريبة، وبحاجة إلى المساعدة. ولأن اللجوء حالة مثلى للضعف والهشاشة الإنسانيين، فهي تلزمها الحماية من الحاجة والعسف، بموجب القوانين الدولية.
هذه الحماية التي يُفترض أن يتمتع بها اللاجئ بوصف حالة اللجوء البائسة التي يعيشها مؤقتة، وهي عادة ما يجب أن تنتهي بأن يعود اللاجئ إلى وطنه، أو تزول حالة اللجوء من خلال التحول إلى مواطن في الدولة التي لجأ إليها، أو في دولة أخرى، حيث يتمتع بكل حقوق المواطنة في بلده الجديد، هذا ما حدث في حالات لجوء كثيرة، على الرغم من أن حالة اللجوء لعشرات ملايين البشر أصبحت مستمرة ومتزايدة في عالم اليوم.
شكلت الحياة في سورية نموذجاً إيجابيا لحياة المنفى الفلسطيني، حالة احتضان عالية التضامن، وصلت، في حالاتٍ كثيرة، إلى حالة الاندماج في الحياة السياسية الفلسطينية، فهناك سوريون كثيرون اختاروا الانضمام إلى الفصائل الفلسطينية، وقدموا حياتهم من أجل فلسطين. واختار فلسطينيون الانخراط في الحياة السياسية السورية، وانضموا إلى حزب البعث، وحصلوا على امتيازات في هذا الإطار، وهناك من انتمى لأحزاب المعارضة، ودفع ثمن ذلك سنوات طويلة في السجون. وفي الحالتين، لم يكن الانتماء الفلسطيني إلى قوى سورية ظاهرة تهدد العمل السياسي الفلسطيني وفاعليته في الأوساط الفلسطينية، ولا كان الانتماء السوري إلى الفصائل الفلسطينية يدفع هذه القوى للتدخل في الشأن السوري، على الرغم من التدخل السوري المستمر في الشأن الفلسطيني.
عانى الفلسطينيون في سورية ما عانى منه المواطن السوري، سواء على مستوى الحياة والمتاعب الاقتصادية، أو على مستوى القبضة الأمنية التي حكمت المجتمع السوري، وشملت المخيمات بشكل طبيعي، وهذه لم تكن معازل أمنية، كما هي المخيمات الفلسطينية في الجنوب اللبناني التي لا تخضع للأمن اللبناني. في سورية الموضوع مختلف، كل شيء تحت القبضة الأمنية، وما يخضع السوريون له من تدقيقات أمنية، يخضع الفلسطينيون له بالقدر نفسه. كان عيش الفلسطيني بشروط السوري يريح الفلسطيني، فلم يكن هناك تمييز ضد الفلسطينيين لأنهم فلسطينيون، كان القمع يشمل الجميع.
كان الشعور بعدم التهديد السمة البارزة لحياة الفلسطينيين في سورية، على الرغم من الخلافات المتكررة بين النظام السوري وقيادة منظمة التحرير، وكانوا يعتقدون أن مساراً واحداً يمكن أن يجعلهم يغادرون سورية، وهو مسار العودة إلى فلسطين.
فجأة، تبين أن الثابت يمكن أن يهتز، فلا يمكن لوضع اللاجئ أن يبقى ثابتاً، في الوقت الذي يهتز كل البلد الذي يقيم فيه، لم يكن من الممكن أن يبقى الوجود الفلسطيني على حاله، في وقت تشهد سورية فيه صداماً دامياً في كل المناطق السورية، بفعل الاحتجاجات التي اجتاحت سورية، وواجهها النظام بوحشية. امتد هذا الصدام من محيط المخيمات والتجمعات الفلسطينية إلى قلبها، في تلك اللحظة توحدت التجمعات الفلسطينية مع المحيط السوري، بالتعرض إلى القمع والقصف العنيف من المدافع والطائرات.
في حالة التهديد المباشر والداهم، يكتشف اللاجئ أنه لا ينتمي إلى المكان، أو هناك من يُفهمهذلك.
عند ذلك، يكتشف مرة أخرى هشاشة وجوده في المنفى. وهذا ما وصل إليه المسار الفلسطيني في محطته الأخيرة في سورية. بعد تعرض المخيمات للقصف العنيف، تغير كل شيء، المكان العامر بالناس والحركة يتحول إلى مكان مهجور، شيء ما ينكسر بعد ثبات عقود. لاجئون فلسطينيون جاءوا إلى أماكن متعددة في سورية، سكن أغلبهم دمشق وضواحيها، ليبنوا ما تيسر من الأبنية لتؤويهم في مكان ناءٍ، بعيداً عن المدينة.
في مكان بين أشجار الغوطة بأبنيته المتفرقة والبائسة، شيّد اللاجئون الفلسطينيون مخيماً كان اسمه اليرموك، بعد أن منحتهم مؤسسة اللاجئين أذون السكن على هذه القطعة من الأرض. بنوا حياتهم فيه بجهد وتعبٍ كثيرين، وحالفهم الحظ وتمددت مدينة دمشق، ليجدوا أنفسهم يقيمون في وسطها بعد عقود من العيش على هامشها، ما زاد في ازدهار المخيم، وجعله واحداً من أحياء دمشق المعروفة. لذلك، لم يكن مصادفة أن يطلق بعضهم على مخيم اليرموك صفة عاصمة الشتات الفلسطيني.
لم يكن المخيم ليلقى هذا الازدهار لولا التعامل السوري مع الفلسطيني بإعطائه حقوق العمل، ومن المفارقة أن هذه الحقوق التي منحتها سورية للاجئين الفلسطينيين، وقد تم إقرارها في ظل البرلمان الديمقراطي السوري الذي نجم عن انتخابات العام 1954 الأكثر تمثيلاً في تاريخ سورية الحديث. على الرغم من ذلك، ليست القصة قانوناً، كلنا نعرف إمكانية التلاعب بالقوانين في العالم العربي.
الأهم تجربة احتضان الشارع السوري الفلسطينيين الذين لجأوا إلى سورية، وقد خفف هذا الاحتضان كثيراً من مرارة اللجوء وقسوته. كل العقود التي عاشها الفلسطيني في سورية لم تشفع له، فجأة يُقصف المخيم بالطائرات، كما تقصف مئات المواقع السورية، وبعد أن تعرّض مرات ومرات للقصف المدفعي. بهذا المتغير، شعر اللاجئ الفلسطيني أن حياته في مهب الريح من جديد، في بلد وجد فيه احتضاناً كثيراً. لا يعرف أين يذهب، وترتبك هويته كما ترتبك حياته، يستعيد كل المآسي التي مرّ بها إخوته من اللاجئين الفلسطينيين، ويحفظها عن ظهر قلب. يعود شريط الذكريات لينكأ الجراح التي عاشتها التجمعات الفلسطينية في الشتات، التجربة القاسية في الأردن، والأقسى منها التي وصلت إلى حد المذابح في لبنان وما زال الإذلال مستمرا، التهجير القسري من الكويت بعد الاحتلال العراقي، الذبح الانتقامي في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي.. كل مخزون الذاكرة من الظلم الذي وقع على الفلسطينيين استحضره لاجئو سورية في لجوئهم الثاني الصعب والقاسي. لجوء هز بقوة هويتهم التي كانوا يعتقدون أنها أقوى من أن تهتز.
كان مخيم اليرموك النموذج، فقد شكل هذا المخيم جزءاً من تاريخ فلسطين، لأن الوطنية الفلسطينية الحديثة ولدت في مخيمات اللجوء داخل فلسطين وخارجها، وكان لهذا المخيم دوره. كان اليرموك، بهويته الوطنية الفلسطينية المنفتحة على الجميع والحاضن لمن احتضنه، نوعاً من المزيج الوطني الفلسطيني العروبي. وعلى الرغم من أنه أكبر تجمع فلسطيني في سورية، ويبلغ عدد سكانه الفلسطينيين حسب تقديرات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا” حوالي 150 ألف نسمة (قبل تهجير سكانه الذين بقي منهم اليوم أقل من 15 ألفا من الفلسطينيين والسوريين)، فإنه يعيش في وسط أغلبه سوري، حيث يقدر عدد سكان مخيم اليرموك بحوالي 700 ألف نسمة.
لم يشهد هذا التعايش الفلسطيني ـ السوري أي صدام على الإطلاق، وكان من الصعب التمييز بين أبناء المخيم من الفلسطينيين أو السوريين. كان المخيم يفخر بحفاظه على الصلة القوية مع فلسطين، ويفخر بمئات الشهداء الذين زفهم على طريق النضال في معركة الوجود الفلسطيني. وبعد أن وجد الشعب الفلسطيني عنوانه السياسي، أخذت التجمعات الفلسطينية تدفع أثماناً غالية، كان نموذجها الأكثر قسوة تجربة اللجوء في لبنان، حيث مورس، وما زال يمارس، عليه التمييز، ويقر ضدهم قوانين عنصرية، نجحت في خفض أعدادهم في لبنان بشكل كبير، واختفوا من العراق، واليوم على طريق الاختفاء من سورية.
وقع الانهيار في مخيم اليرموك، كما المخيمات الأخرى، وكشف هشاشتهم وضع اللاجئين، وكشف أيضاً هشاشة الوطنية الفلسطينية. انهار مخيم اليرموك، بانهياره ينهار مكان آخر كان عنواناً لفلسطين، وينهار مكوّن من مكوّنات الوطنية الفلسطينية. اللاجئون الفلسطينيون الذين حملوا قليل متاعهم، وغادروا المخيم تحت القصف إلى كل بقاع الأرض، تغيّروا إلى الأبد، ثمة شيء ما انكسر داخلهم، وفي هويتهم في رحلة اللجوء الأخيرة.
المصدر : العربي الجديد