مقالات

غازي دحمان – الاستراتيجية الروسية ومواجهة الخطة الروسية

تنطلق أغلب التحليلات التي تحاول مقاربة الحركة الدبلوماسية الخاصة بسوريا، من فرضية أن روسيا تحاول النزول عن الشجرة ولا ترغب في تحول الساحة السورية إلى مستنقع يعيد إنتاج تجربة أفغانستان بطريقة أكثر مأساوية، وبالتالي فإن القيادة الروسية تحاول التوصل إلى تسويات مقبولة تضمن مصالح جميع الأطراف وتسهم بالفعل في صناعة ترتيبات تساعد على حل الأزمة السورية المستعصية.

 وفي الواقع، يؤشر فحص المعادلات التي تسعى روسيا لإرسائها في سوريا على زيف مثل هذه الفرضيات وكمية الشحن الرغبوي التي تنطوي عليه، وهي تفرض أولا أن سلوكيات قادة الكرملين وتصرفاتهم تحكمها معايير عقلانية وحسابات الربح والخسارة، كما أنها تفترض ثانيا أن روسيا جاءت بهدف إحلال السلام في سوريا بعد أن عجز العالم عن هذا الأمر، وأنها -وبما لها من تأثير على رأس النظام السوري ومفاصله- ستتمكن من إنجاز هذه المهمة!

في الواقع العياني لم يثبت أن قادة الكرملين الذين أوصلوا دولا عديدة إلى حالة الفشل (أوكرانيا وجورجيا)، وقبلها وضعوا روسيا نفسها في مآزق سياسية واقتصادية، ليسوا حكماء بالدرجة التي يتصورها البعض، أو لديهم معايير مختلفة للتقييم، كما أنهم لم يأتوا إلى سوريا لحل أزمة شعبها التي ساهموا بدرجة كبيرة في استفحالها ووصولها إلى هذه المراحل.

المؤكد أن الوجود الروسي في سوريا هدفه -بالدرجة الأولى، وكما هو واضح من الإجراءات الروسية على الأرض- إعادة صياغة النظام الإقليمي العربي تحديدا، لاعتقادها بأنه أسهل المناطق التي يمكن من خلالها إظهار الوجود والتأثير، ولظنها أن المنطقة اليوم تمر بحالة فراغ بعد تضاؤل الوجود الأميركي بها، وتداعي أركان المنظومة العربية وانهيار بعض أنظمتها.

وبالتالي فهي تتعاطى مع الحدث بوصفه فرصة إستراتيجية مهمة لا بد من الاستفادة منها لتحقيق فائض من القوة والنفوذ يعوضها خسائرها في أوروبا، وذلك عبر التحكم في المجال العربي من سوريا شرقا إلى ليبيا غربا.

الإستراتيجية الروسية
تعمل روسيا في سبيل نجاح مخططها على تطبيق إستراتيجية مزدوجة: ميدانيا وسياسيا. ففي المجال الميداني تسعى إلى:

– تدمير جميع البدائل المحتملة للأسد وفرضه كخيار وحيد والممثل الشرعي البديل والوحيد القابل للدعم والحياة في سوريا. وهي في سبيل ذلك تصر على مقولة عدم وجود فارق بين إرهابيين معتدلين ومتطرفين، فهي تدخل الميدان السوري وتفرض سلفا تعريفها الخاص للإرهاب وتطالب الآخرين بالعمل تحت سقف تعريفها، وحتى دعوتها للحوار مع الجيش الحر وتأمين غطاء جوي له، لم تكن سوى نوع من الاستهزاء بهذا الجيش بعدما أرفقت دعوتها تلك بشرط “إن وجد هذا الجيش”.

– توسيع هامش توسعها ليشمل كافة الأراضي السورية، وإنجاز ذلك على مراحل، ففي المرحلة الأولى تبدو العين مصوبة على حلب بهدف عزل البر السوري عن تركيا، بالإضافة إلى تأمين مناطق حمص وحماة. ونجاح هذه المهمة سيليه الانطلاق إلى مراحل جديدة، وفي كل هذه المراحل سيكون العمل الأهم إنهاء أي وجود لمعارضة سوريا. 

– تقليص خيارات الدول الداعمة للثوار ودفعها لقبول الحل الذي تفرضه روسيا، وذلك من خلال تدمير الأذرع التي صنعتها والبنى التي شكلتها في مواجهة نظام الأسد وحلفائه. ذلك أن إضعافها على الأرض يجردها من أوراق القوة التي تمتلكها ويجعلها رهينة القبول الروسي بها سياسيا وتفاوضيا.

أما في المجال السياسي فتسعى روسيا إلى:
– الحصول على تنازلات قدر الإمكان وتقنينها وتثبيتها كمسلمات وحقوق روسية نهائية، فقد حصلت موسكو في بادئ الأمر على انتزاع اعتراف من الأطراف الإقليمية والدولية على حقها في النفوذ بسوريا، ولم يلاق هذا الأمر اعتراضات مهمة.

“يجب عزل الدول العربية التي تؤيد صراحة التدخل الروسي واعتبارها شريكة في الإضرار بالأمن العربي، فمن غير المعقول أن تتسبب هذه البلدان في إضعاف الأمن العربي وضياع الموارد وتهديد حياة الشعوب العربية بذرائع غيرمتناسقة مع الخطر الكبير الذي تتسبب فيه”

وتعتبر المؤتمرات السياسية التي تعقدها روسيا من أجل سوريا من الآليات التشغيلية للحصول على هذه التنازلات، حيث يتضح أن موسكو لا تلتفت كثيرا إلى المخرجات السياسية لهذه المؤتمرات، بقدر اهتمامها بتحصيل أكبر قدر من التنازلات لتوظيفها في سياق صراعها السياسي حول السيطرة على سوريا والمنطقة. 

– استنزاف الأطراف الإقليمية والدولية بالتفاوض عبر التركيز على إستراتيجية طرح أسوأ الخيارات والبقاء ضمن مربع هذه الخيارات، فمثلا استهلاك الأطراف بقضية دور بشار الأسد في مستقبل سوريا، بينما لا أحد يناقش رغبة روسيا وإصرارها على بقاء هياكل النظام السابق، بما يعني تفريغ الثورة السورية من أحد أهم أهدافها وهو تغيير النظام من رأسه حتى قاعدته وإنهاء آليات عمله التي كانت السبب في إنتاج الأزمة.

– استقطاب الأطراف الإقليمية والدولية إلى الحل الروسي تحت عناوين عديدة “التنسيق، الحياد، الدعم” بحيث تتحول الأطراف الرافضة إلى أقلية معزولة وغير مؤثرة. وتراهن روسيا على هذه النقطة بعد أن حصلت على تنازل مجاني من النظام المصري الحاقد على الثورات العربية لأسباب ذاتية، وبالتالي فإنها استطاعت اختراق الموقف العربي وإضعافه عبر إخراج مصر من خانة الرافضين لوجودها في سوريا.

مواجهة الخطة الروسية
تبدو الدول العربية محكومة بانتهاج إستراتيجية مواجهة ضد المخطط الروسي، ذلك أن إخراج سوريا من الإطار العربي وإدخالها في مجال النفوذ الروسي المدعوم إيرانيا سيشكل مدخلا خطيرا للضغط على أمن الدول العربية وتحديدا المشرقية منها، وسيرفع سقف الطموح الروسي في المنطقة إلى البحث عن توسيع مجال نفوذها، خاصة أنها تشتبك مع الدول العربية على أكثر من جبهة، يأتي في مقدمها النفط والغاز وخطوط إمدادهما وطرق نقلهما وأسواق تصديرهما، فضلا عن العداء البادي في السياسة الخارجية الروسية للأنظمة السنية وتحالفها اللصيق مع إيران.

ويجب أن تتضمن خطة المواجهة على المستوى الميداني:
– لا تمتلك روسيا الأصول العسكرية الكافية لفرض نفوذها في سوريا، كما أنها تواجه عقبات تقنية في موضوع نقل أعداد أكبر من المعدات والجنود، وهي تعتمد تكتيكات تقوم على ضرب الجبهات الواحدة تلو الأخرى لعدم قدرتها على العمل في كافة الجبهات دفعة واحدة. ومواجهة هذا التكتيك تتطلب دعم جميع جبهات الثوار وتحويلها من الموقف الدفاعي الانتظاري إلى الهجوم والإمساك بزمام المبادرة، وهذا الأمر يشكل إرهاقا لروسيا على الجبهات السورية ويدفعها إلى التراجع والبحث عن مخارج.

– عدم السماح لروسيا بإنجاز المراحل التي تتضمنها إستراتيجيتها وعدم تركها تنسق خطوط دفاع صلبة وتؤسس بنية عسكرية من المليشيات الطائفية في سوريا والعراق، وهذا الأمر يتحقق عبر عكس الهجوم على حلفاء سوريا وإيقاعهم في الفوضى وإشغالهم بالدفاع عن أنفسهم أكثر.

– استثمار عامل الزمن، وهذا العنصر يشكل كابوسا لقادة روسيا العسكريين، وكلما طال صمود الثوار أكثر أدركت موسكو أنها تدخل في عملية استنزاف لا طائل منها، وأن جهودها محكوم عليها بالفشل.

“تشكل فصائل الثوار السورية مقدمة الدفاع عن الأمن العربي، في حين تقف الدبلوماسية العربية على خطوط المجابهة السياسية، وإذا لم يرتق الأداء في الجبهتين إلى مستوى التحدي، فإن العالم العربي سيجد نفسه قد تراجع للدفاع عن أشياء في صلب أمن دوله الداخلية”

وعلى المستوى السياسي:
– مواجهة إستراتيجية الاستنزاف التفاوضية الروسية برفع سقف المطالب تجاه روسيا، خاصة في العناصر المفتاحية للأزمة (مصير النظام وليس بشار الأسد، ودور إيران ومليشياتها)، ووقف أي شكل من أشكال التنازل أمام روسيا.

– التركيز على تعريف القضية وتعيين عناصرها الأساسية (إطار الحرب) من كونها ثورة شعب وعدم السماح لروسيا بإعادة صياغتها وتأطيرها كقضية إرهاب وحسب، وفي هذه الحالة يتوجب على الدبلوماسية العربية المطالبة بتضمين عنصرين مهمين لمرافعتها الدبلوماسية في المؤتمرات السياسية الخاصة بسوريا: 

أ) وضع نظام الأسد ضمن قائمة الكيانات الإرهابية باعتباره المسؤول عن قتل العدد الأكبر من السوريين.
ب) وضع إيران ووكلائها ضمن هذه القائمة لمساهمتهم في ارتكاب مجازر وعمليات تطهير على أساس طائفي.

– عزل الدول العربية التي تؤيد صراحة التدخل الروسي واعتبارها شريكا في الإضرار بالأمن العربي، فمن غير المعقول أن تتسبب هذه البلدان في إضعاف الأمن العربي وضياع الموارد وتهديد حياة الشعوب العربية بذرائع لا تبدو متناسقة مع الخطر الكبير الذي تتسبب فيه.

– التركيز على الجانب الإعلامي، وخاصة الموجه إلى روسيا، حيث تستفيد قيادة الكرملين من عدم وجود منافس لها في هذا المجال، مما يجعلها تشكل الرواية التي تناسبها عن الحرب السورية.

المصدر: الجزيرة

زر الذهاب إلى الأعلى