النظرة العميقة لحادثة إسقاط تركيا المقاتلة الروسية، سوخوي 24، على الحدود السورية – التركية، لا بد أن تضعك أمام أسباب تتجاوز اختلاف الروايتين التركية والروسية بشأن خرق المقاتلة الروسية الأجواء التركية من عدمه، فالثابت أن هناك خلافاً استراتيجياً في سياسة البلدين إزاء الأزمة السورية، تحول إلى صدامٍ متدحرج، منذ التدخل العسكري الروسي في سورية.
بنت أنقرة التي قطعت علاقاتها مع النظام السوري، قبل نحو أربع سنوات، استراتيجيتها المستقبلية تجاه منطقة الشرق الأوسط على أساس إسقاط هذا النظام، وعليه، عملت بكل الوسائل السياسة والعسكرية والأمنية لتحقيق هذا الهدف، في حين جاء التدخل العسكري الروسي لإنقاذ النظام، عبر وضع الجميع أمام واقع جديد، يتيح تسويةً تعيد إنتاج النظام، وفقا للظروف الجديدة، ما يعني، في العمق، ضرب الاستراتيجية التركية بتجريدها من أدواتها. وعليه، يمكن القول إن حادثة إسقاط الطائرة الروسية لم تكن سوى تعبير عن اشتباك الاستراتيجيتين، الروسية والتركية، في الشمال السوري، على وقع التطورات الميدانية.
أحسّت تركيا بأن القصف الروسي الذي طاول مختلف الفصائل المطالبة بإسقاط النظام السوري، وتحرّك جيش الأخير ميدانياً، بعد استعادة مطار كويرس، بأن ثمة احتمال لتحرك الجيش السوري في منطقة جغرافية، تمتد من كسب حتى شمال غرب حلب، مروراً بجبل التركمان الذي تعدّه تركيا جزءاً من أمنها القومي، وإن حصول مثل هذا السيناريو يعني فرض واقع جديد من شأنه إمكانية قطع الإمدادات عن القوى والفصائل المطالبة بإسقاط النظام، فضلاً عن أن الحشد العسكري الروسي وإقامة قواعد عسكرية ونشر منظومات صاروخية متطورة، ولاسيما إس 400 في شمال غربي سورية، يعني عملياً ضرب السعي التركي القديم – الجديد إلى إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري.
ومن شأن هذا كله وضع حد لنهاية الخطوط الحمر التركية، ولاسيما إمكانية تقدم القوات الكردية باتجاه جرابلس، مروراً بمارع، ووصولاً إلى عفرين، بما يعني اكتمال القوس الكردي على الحدود الجنوبية لتركيا، وهو ما تعدّه تركيا خطراً مستقبلياً لأمنها الداخلي في ظل العلاقة العضوية بين الحركات الكردية على جانبي الحدود، ولاسيما حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، وحزب العمال الكردستاني في تركيا، حيث الإدارة المشتركة للحزبين، من جبال قنديل في إقليم كردستان العراق.
في جميع الأحوال، نقلت حادثة إسقاط المقاتلة الروسية قواعد الاشتباك التركي – الروسي في سورية إلى مرحلة جديدة، تطاول مختلف أوجه العلاقة بين البلدين، فالاقتصاد الذي هو عامل أساسي في هذه العلاقة، بدا العامل الموجع للطرفين في الذهاب إلى التصعيد أكثر، واحتمالات المواجهة.
لكن، من الواضح أن دور هذا العامل بات مرتبطاً بطبيعة الرد الروسي في الأيام المقبلة، فروسيا، وعلى لسان الرئيس فلاديمير بوتين، عدّت الحادثة طعنة في الظهر، ولوّحت بإدخال عامل الاقتصاد في المعركة، وميدانياً ذهبت إلى تصعيد استهداف الفصائل السورية المرتبطة بتركيا، ولاسيما تركمان سورية التي باتت تركيا ترفع راية الدفاع عنهم. واللافت، هنا، التلويح الروسي بالورقة الكردية، وتحديدا حزب العمال الكردستاني من خلال الدعوات الكثيفة لهذا الأمر في الصحافة الروسية، في الأيام التي تلت إسقاط المقاتلة.
في المقابل، عملت تركيا على مستويين. الأول، محاولة استيعاب الغضب الروسي، بالتأكيد على علاقة الجوار التاريخية والمصالح الاقتصادية الضخمة المشتركة بين البلدين. والثاني، تفعيل الأوراق الخارجية والداخلية في المعركة، خارجياً في جلب حلف الأطلسي إلى موقع المعركة، من خلال البندين الرابع والخامس من ميثاق الحلف، على اعتبار أن البندين ينصّان على مواد مشتركة للدفاع عن الدول الأعضاء في الحلف، وعلى الأرض في تعزيز الحشد العسكري على الحدود مع سورية، استعداداً لسيناريوهات التصعيد المحتملة، وقد ترافق ذلك كله مع تعبئةٍ داخليةٍ، تمثلت في رفع راية الدفاع عن تركمان سورية، حيث شهدنا دعوات من أحزاب تركية، ولاسيما حزب الاتحاد القومي، للتطوع، دفاعاً عن وجود التركمان في سورية، انطلاقا من العامل القومي.
من الواضح أن قواعد الاشتباك الروسي – التركي باتت بالنار، فروسيا التي ألقت بثقلها العسكري في هذه المعركة قد تذهب إلى تصعيد متدحرج لفرض سياسة الأمر الواقع على الأزمة السورية، فيما تبدو تركيا الباحثة عن إسقاط النظام في مواجهة صعبة، في ظل قناعتها، بأن جل سياسة حليفها (الحلف الأطلسي)، يقوم على استيعاب مسار التصعيد الروسي، لا أكثر.
المصدر : العربي الجديد