إن مئة يوم من التدخل في سوريا لم تمكن روسيا من تحقيق إنجازات على الأرض تمهد لفرض حل سياسي، مما يعني فقدانها إمكانية لعب أي دور للوساطة بين النظام والمعارضة.
بعيداً عن أهداف الكرملين المعلنة لتبرير التدخل العسكري الروسي في سوريا تتضح، يوماً بعد آخر، الأسباب الحقيقية للتدخل وآفاقه، وتأثيراته على مستقبل سوريا وروسيا على حد سواء.
استغلت موسكو فشل التحالف الدولي في تحقيق نتائج ملموسة للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، رغم مرور عام على غارات التحالف، وأسهمت الماكينة الإعلامية الروسية في الترويج لمخاطر سقوط دمشق على يد مقاتلي “داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية) المنتشرين في جنوبها، ومن ثم بدأت في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي التمهيد لأول تدخل عسكري لروسيا في خارج بلدان الاتحاد السوفياتي السابق منذ انهياره عام 1991.
تطور أهداف التدخل مع الزمن
برَّرت موسكو تدخلها العسكري بحصولها على طلب رسمي من دمشق للمساعدة في محاربة “الإرهاب”، وقرَّرت العمل بعيداً عن التحالف الدولي، الذي تراه غير شرعي ولا يمكن أن ينجح في مهمة القضاء على “داعش”، لأنه لا ينسق مع “الحكومة السورية الشرعية” على الأرض.
وساق الكرملين جملة من الأسباب والدوافع لتدخله في سوريا، أهمها المحافظة على مؤسسات الدولة السورية، تجنبا لتكرار سيناريو العراق وأفغانستان أو الصومال، حيث أدى انهيار الدولة في هذه البلدان إلى حروب أهلية، وتحولها إلى بؤر إرهاب أو دول فاشلة، تمثل تهديداً لمواطنيها وبلدان الجوار.
وفي الخطاب الموجه إلى الرأي العام الروسي، ركزت موسكو على أنها ترغب في شن حرب استباقية ضد “الإرهابيين” في سوريا، وكرَّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورؤساء الأجهزة الأمنية أن نحو ألفي روسي وثلاثة آلاف من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق يقاتلون في صفوف “داعش”، وأنهم يشكلون خطراً كبيراً على الأمن القومي الروسي والاستقرار في آسيا الوسطى في حال عودتهم من سوريا والعراق.
ومع مرور الزمن بدأت تصريحات المسؤولين الروس تكشف جوانب مهمة من أهداف موسكو في تدخلها في سوريا، إذ أشار الرئيس الروسي بوتين، في مؤتمره الصحفي السنوي في 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلى أن العمليات في سوريا تعد تدريبات عسكرية ذات كلفة رخيصة في ظروف حرب حقيقية”.
وبدا واضحاً أن موسكو ترغب في تجريب أسلحتها الحديثة والترويج لها، وبعث رسائل داخلية وخارجية حول قوة الجيش والأساطيل الروسية، رغم أن محاربة المعارضة المسلحة أو حتى “تنظيم الدولة” لا تحتاج إلى هذه الأنواع من الأسلحة.
وعمدت روسيا إلى استعراض ترسانتها الصاروخية، واستخدام أحدث طرازات الأسلحة، وسرَّبت وسائل إعلامها مقاطع فيديو توثق لحظة إطلاق صواريخ “كروز” من بحر قزوين، كما استخدمت غواصاتها لإطلاق صواريخ مجنحة.
وفي بداية الشهر الماضي أعلن يوري بوريسوف نائب وزير الدفاع الروسي أن الدول الأجنبية “اصطفت في طابور لشراء الطائرات الروسية، التي أظهرت قدراتها في سوريا، مثل قاذفة “سو- 34″، لكن اللافت أن وزارة الدفاع الروسية لم تكشف عن أي عقود مؤكدة حتى الآن.
والثابت أن التدخل الروسي جاء عقب تقدم المعارضة الكبير في النصف الأول من العام الماضي، الذي أدى إلى خروج محافظة إدلب بالكامل عن سيطرة النظام؛ لتكون هي المدينة الثانية بعد الرقة، التي يفقد فيها النظام جميع مواقعه. كما أن تحرير إدلب جاء عقب توحيد جهود عشرات التنظيمات المعارضة لمحاربة النظام.
ولعل الأهم أن السيطرة على المحافظة تعد مفصلية لأنها تقطع طريق الإمدادات إلى حلب، وتسمح لاحقاً بتحرك المعارضة المسلحة لفتح جبهتين مهمتين: الأولى نحو الجنوب في ريف حماة، ومنها يزداد حصار مناطق خزان النظام البشري في منطقة الغاب الغربي، كما أن إدلب تعد بوابة للتقدم نحو الغرب باتجاه ريف اللاذقية الشمالي.
وترافق إنجاز المعارضة في إدلب مع تقدم كبير للجيش الحر في الجنوب، وتحقيق مكاسب كبيرة في ريف درعا وحصر النظام في جيوب داخل المدينة، وعدم قدرة قوات النظام على التقدم في الغوطة رغم الحصار المطبق عليها منذ سنوات.
ويعّد التدخل الروسي في سوريا تطوراً غير مسبوق في تاريخ علاقاتها مع البلدان العربية، وهو الأوسع نطاقاً خارج حدود الاتحاد السوفياتي السابق منذ حرب أفغانستان. فروسيا سبق لها أن جرَّبت قواتها في نزاعات مع جورجيا وأوكرانيا عامي 2008 و2014، لكن صعوبة التدخل في سوريا تكمن في بعده عن مراكز قيادة الجيش الروسي، وتحدي مصاعب تأمين وإدارة الدعم اللوجستي والمعلوماتي للعمليات.
مأزق موسكو في سوريا
والسؤال هو ما الذي دفع روسيا إلى هذا الخيار؟ والجواب أنه رغم تغليف روسيا تدخلها بالمحافظة على مؤسسات الدولة السورية، فإن تحليلاً بسيطاً لخريطة الأهداف والتكتيكات السياسية الروسية يكشف أنها تسعى للمحافظة على النظام ورأسه، وإجبار المعارضة والدول الإقليمية الداعمة لها على القبول بحل سياسي وفق رؤية وشروط النظام السوري، عبر فرض وقائع على الأرض، وإلا فالانتقال إلى الخطة “ب”، القاضية برسم حدود “سوريا المفيدة”، وضمان مصالح الكرملين مع النظام الحالي، والمتمثلة في القاعدة البحرية في ميناء طرطوس، وعقود النفط والغاز الموقعة في نهاية 2013 لاستغلال الحقول البحرية الضخمة مقابل الشواطئ السورية.
ومع تطور التدخل برزت رغبة روسيا في إقامة قواعد عسكرية جديدة في سوريا، بعد إعادة تأهيل مطار “حميميم” قرب جبلة، ومطار “الشعيرات” شرقي حمص.
وتخوض روسيا في سوريا تجربة عسكرية سبقتها إليها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، وهي توجيه ضربات جوية وصاروخية، والاعتماد على قوى برية، لكن مأزق موسكو يكمن في أنها تعتمد على الجيش السوري و”حزب الله” و”الحرس الثوري” الإيراني ومليشيات شيعية عراقية وأفغانية، وهي قوى أُنهكت بفعل سنوات الحرب الطويلة والشاقة.
وفي المقابل، فإن موسكو تحجم عن تدخل بري واسع، لأنه يعني تورطاً أكبر في صراع لا تعرف نهايته، وربما الغرق في مستنقع تخشى موسكو من الانزلاق فيه، حتى لا تكرر السيناريو الأفغاني، أو ترتفع الكلفة الاقتصادية والبشرية للتدخل.
ومن الواضح أن موسكو لن تقدم على أكثر من إرسال مستشارين عسكريين دون التورط في حرب برية، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع خفض كثافة ضرباتها الجوية من أجل إجبار المعارضة والقوى الإقليمية والدولية على تبني رؤية موسكو للحل السياسي، وهو ما لم يتحقق حتى الآن ويصعب تحقيقه في ظروف الميدان الحالية.
تكرار تجربة الشيشان في سوريا
فبعد نحو مئة يوم من الغارات الجوية الكثيفة والهجمات الصاروخية لم يحرز النظام والقوى المتحالفة معه تقدما يعتد به على الأرض، على نحو إستراتيجي، بل على العكس تراجع النظام وحلفاؤه في مواقع كثيرة لمصلحة المعارضة المسلحة.
وبالكاد يستطيع النظام وحلفاؤه المحافظة على مناطق لا تزيد على ثلاثين ألف كيلومتر مربع أو 16% من مساحة سوريا الإجمالية، ومما يعقد المهمة الروسية أن المعارضة باتت تتبع تكتيكات جديدة خففت من تأثير الغارات الروسية.
ولا تستطيع روسيا مع طول مدة تسويق تدخلها على أنه يهدف إلى محاربة “تنظيم الدولة”، والتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، فهي اتبعت تكتيكاً مركباً يجمع بين توجيه ضربات جوية وصاروخية تستهدف كل معارضي الأسد من جهة، ودعم قوات الأسد وحلفائه بالأسلحة والتغطية الجوية لتغيير الوقائع على الأرض من جهة ثانية.
وتجمع كل التقارير على أن 15% فقط من الضربات الروسية استهدفت “داعش”، بينما كان باقي الغارات على مواقع المعارضة المسلحة.
ومع مقتل قائد “جيش الإسلام” زهران علوش تزداد القرائن بأن فرض حل سياسي وفق الرؤية الروسية يأتي في مقدمة دوافع موسكو لتدخلها في سوريا، عبر وضع العالم أمام خيار صعب بين الأسد و”داعش”.
وهذا ما أكده تصريح لوزير الخارجية الروسي في آخر أيام العام الماضي، عندما أكد أن بلاده تدرج “جيش الإسلام” و”أحرار الشام” ضمن التنظيمات الإرهابية، رغم أن التنظيمين كانا ضمن 15 تنظيماً مسلحاً أقرت في مؤتمر الرياض الأخير مبدأ التفاوض من أجل تسوية سياسية للأزمة السورية.
ويبدو واضحاً أن موسكو تعيد تكرار تجربتها الشيشانية في سوريا؛ فاستهداف علوش يشبه إلى حدّ كبير تصفية أصلان مسخادوف القائد الشيشاني الذي فاوض موسكو، وقبل حلا سياسيا لكن اغتياله أدى إلى صعود نجم شاميل باسييف وفريق من المقاتلين لا يؤمن إلا بالقوة في مواجهة موسكو، مما سمح للكرملين بمواصلة سياسة الأرض المحروقة في الشيشان، وهي ذات السياسة المتبعة حالياً في شمال غرب سوريا وغوطة دمشق.
حصاد هزيل بعد مئة يوم
لا بد من تسجيل براعة الدبلوماسية الروسية في اشتقاق تكتيكات تخدم أهدافها باستغلال الأوضاع الطارئة، فقد استغلت موسكو هجمات باريس الإرهابية على أكمل وجه، وكذلك الهلع الأوروبي من ازدياد أعداد اللاجئين السوريين، واستطاعت الخروج من عزلتها، وتغيير مواقف كثير من الدول الغربية بأولوية محاربة الإرهاب، وتأجيل البت في موضوع رحيل الأسد بعد الانتهاء من “داعش” وجبهة النصرة.
واستطاع الكرملين حرف انتباه أوروبا عن الأزمة الأوكرانية وضم القرم، كما غطى -بشعارات إعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي وروسيا القيصرية الحربية- على تأثيرات أقسى أزمة اقتصادية تعيشها روسيا في تاريخها المعاصر.
في المقابل، إن مئة يوم من التدخل في سوريا لم تمكن روسيا من تحقيق إنجازات على الأرض تمهد لفرض حل سياسي يتناسب مع رؤيتها ورؤية النظام السوري، وأخفق الكرملين في إقناع العالم بأن هدفه هو المحافظة على مؤسسات الدولة السورية وليس حماية نظام الرئيس الأسد وشخصه، مما يعني عملياً فقدان موسكو إمكانية لعب أي دور للوساطة بين النظام والمعارضة، التي حسمت أمرها وصنفت روسيا ضمن محور واحد مع الأسد وإيران.
وفي بداية التدخل الروسي ارتاحت أطراف كثيرة باعتباره أهون من شر إيران والمليشيات التابعة لها، لأن تدخل دولة عظمى يعني تراجع دور إيران بأبعاده الطائفية في سوريا والمنطقة. ورغم عدم بروز تناقض كبير بين الطرفين فإن الحسابات الروسية معقدة جداً، ويمكن أن تنهار مع طول مدة التدخل، فانسحاب إيران نتيجة ارتفاع عدد القتلى سيسبب مشكلة كبيرة لروسيا على الأرض تضعف فعالية ضرباتها، وفي المقابل فإن موسكو تتنافس مع طهران على النفوذ في سوريا.
ولعل الأعقد على المدى البعيد يتمثل في كيفية الجمع بين التنسيق الروسي-الإسرائيلي والتحالف الروسي مع (محور الممانعة).
وبداهة؛ لا تستطيع روسيا العمل من دون التنسيق مع الأطراف الإقليمية الفاعلة، ولهذا فإن حادثة إسقاط المقاتلة الروسية قرب الحدود التركية وجهت ضربة قوية لموسكو، وترفع كلفة عملياتها في سوريا، وتنذر بتشكيل تحالف إقليمي للوقوف في وجه المخططات الروسية، ويمكن أن يفتح على تزويد المعارضة بأسلحة مضادة للطيران، مما يعني زيادة خسائر روسيا في الأرواح والعتاد والمال، وإغراقها في مستنقع طالما حذرت شركاءها الغربيين منه بعد التدخلات في العراق وأفغانستان.
ورغم أن التدخل الروسي فرض مساراً سياسياً رسمه القرار 2254، المبني على غموض في مرجعياته بين “جنيف1” غير المفضل عند روسيا، وتفاهمات “فيينا”، فإن النتائج المخيبة على الأرض ستجبر صناع القرار في موسكو -عاجلاً أو آجلاً- على وضع إستراتيجية بديلة تتضمن تقديم تنازلات بشأن مصير الأسد، وربما تأسيس تحالف مع الولايات المتحدة والبلدان الإقليمية لمحاربة الإرهاب.
فالبديل هو استمرار العملية العسكرية الروسية من دون سقوف زمنية، وغوص روسيا في مستنقع يمكن أن تخسر نتيجته كل ما جنته حتى الآن، ويضعها في مواجهة استحقاقات طالما هربت منها إلى الأمام مثل أزمة أوكرانيا والأزمة الاقتصادية بفعل تراجع أسعار الطاقة، وغياب الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الهيكلية، وقد يزج بها في مواجهة مع العالم الإسلامي.
المصدر : الجزيرة نت