يُشهر سكان مضايا، البلدة السورية التي يحاصرها جيش النظام ومليشيات وافدةٌ تُشايعه، جوعَهم، بل يستجيبون لتصوير أبدانهم، جلوداً على عظام، وفي ذلّةٍ ظاهرة. ليس غرضهم أن نُصابَ بالرّوْع، وأن نمحَضهم عطفاً وتعاطفاً، عندما نراهم يفتك بهم الجوع، فهم مستباحون لغير التصوير أيضاً، للقتل بالتجويع مثلاً.
ليس في وسع أحدٍ منهم أن يفعل كما قال الشنفرى عن نفسه، أنْ ينسى الجوع ويُراوغه، يُميته بأن ينساه، فلا يذكُره: أُديمُ مِطالَ الجوعِ حتى أُميتَه/ وأضربُ عنه الذّكْرَ صفحاً فأُذهلُ.
لا يقدر ناس مضايا على مكابرةٍ مثل هذه. وإذا كان الطريد العربي القديم، الصعلوك الفارس الجاهلي، صاحب اللامية التي أوصى عمر بن الخطاب بتعليمها لأبنائنا (هل من يفعل؟)، إذا كان يُؤثر أن يُطعم نفسَه التراب على أن يطلب شيئاً من أحد يمنّ عليه بذلك، فإن السوريين، المحاصرين منذ شهور في مضايا، لا يدّعون فائضاً من الشّمم فيهم يجعلهم يرفضون إسعافاً بأي طعام من أيٍّ كان، وإنْ بتمننٍ وتفضّل.
للشنفرى أن يقول ما يشاء: وأستفُّ تُربَ الأرضِ كيلا يُرى له/ عليَّ من الطولِ امرؤٌ مُتطوّل. وله أيضاً أنْ يطوي أمعاءه على الجوع، فتصبح لخلوّها من الطعام يابسةً تلتفّ على بعضها، كأنها حبالٌ أُتْقن فتلها: وأطوي على الخمصِ الحوايا كما انطوت/ خيوطةُ ماريٍّ تُغارُ وتفتلُ. إنه بهذا يُخفي حاله إذا ما أمضّه الجوع، وصار خاوي البطن، فالأَنفة التي تطبع شخصه لا تُجيز له أن يراه الناس على هذا النحو. أهل مضايا ليسوا من طرازه، هم مباحون لمن شاءَ أن يراهم، بل يشتهون أن يرى العالم كله موتهم جوعاً، والأصح قتلهم جوعاً. لا مطرح بين ظهرانيهم لحكاية الأنَفة هذه، كما يراها الشنفرى في نفسه، بعد أن أمعن النظام الحاكم في دمشق، منتصراً بمسلحي حزب الله وطيران بوتين وثرثرات أوباما، في إزهاق الأرواح في مضايا وشقيقاتها، وثمّة من يقترح عليه أن لا يصرف وقتاً في تجويع الناس هناك، بل أن يُجهز عليهم حرقاً، فذلك أجدى، بحسب شبيحٍ مجرم، لم يستح من إشهار مطلبه هذا.
يَقنَع ثابت بن أوس (قيل أواس)، الملقب بالشنفرى، بقلة الزاد، لكنه يعدو في طلبه كالذئب، وإذا حضر الطعام، لن يكون أول من يمدّ يده إليه، فالعجول هو الجشع: وإن مُدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن/ بأعجلهم إذ أجشعُ القومِ أَعجلُ. ليست هذه المسألة مطروحةً في مضايا، فليس ثمّة زادٌ وجشعون، وإنما تمويتٌ للناس بتجويعهم، لا بأس من أن يعرف كل الأَنام حالهم هذا، فهم بلا قومٍ ينتصرون لهم، إنهم متروكون لجوائح يتخيّرها رجال بشار الأسد، كما يشاءون، الحرق أو التجويع أو القنص أو الخطف. كأنّ في صيحة الشنفرى، لمّا نبذه قومُه، ولم يعترفوا به، فخرج عليهم، بعضاً من حشرجة أهالي مضايا، إذا ما ندّ عنهم صوتٌ عن قومهم الذين ما عادوا قوماً لهم. افتتح الفارس العتيق لاميّته (68 بيتاً) بإعلان هجرهم، وانتسابه إلى غيرهم: أقيموا عليّ بني أمي صدور مطيّكم/ فإني إلى قومٍ سواكم لأميلُ.
ولكن، على من يميلُ أهالي مضايا المتروكون لضباع بشار الأسد وذئابه. الصعلوك الذي انتهى قتيلاً، وعاش شجاعاً، وقيل فيه إنه كان أعدى من الخيل، آنس راحةَ باله بمعايشة الوحوش والذئاب الرقطاء والضباع في الصحراء. أثنى عليهم كثيراً في “لامية العرب” التي تستلّ هذه السطور منها أبياتاً، رآهم أهلَه الذين ينصرونه إذا استنصرَهم.
ناس مضايا لا يعثرون على من ينتصرون لهم، والوحوش والذئاب والضباع قدّامهم بشرٌ أشرار، ليسوا كما الذين انتسب إليهم الشنفرى، لمّا تمرّد على الظلم، ومنّى نفسه ببلوغ القوت في عشيرةٍ يهنأ فيها بحياةٍ منعّمة. رفضه أهلوه، فصار يبحث عن زاده وقوته، وإنْ بالإغارة على آمنين ليلاً، كأن الجوع وحده ما كان يخيفه، فقاتله وانتصر عليه بقوسٍ مزيّنةٍ يسدّد منها النبال، وبالشعر الذي غالى فيه وكابر. ناس مضايا لا يكابرون، ولا يلهجون بالشعر. … يهزمهم الجوع، ويمضون إلى الله، وحيدين عارين من أي انتصار.
المصدر : العربي الجديد