الغارة الإسرائيلية الأخيرة وضعت حزب الله، ومن ورائه إيران، في موقف الاختبار. فلو رد حزب الله بحرب واسعة قد يعصف بوجوده في سوريا، بل قد يجرده، لبنانيا من وهج قوته الظاهرية.
من الصعب اعتبار الضربة الإسرائيلية لحزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني في سوريا ردعا استباقيا لخطر حقيقي كان يهدد الأمن الإسرائيلي. والأكثر ترجيحا أنها تعضيد مقصود، وفي هذا التوقيت بالذات، لهجمة الكونغرس الجمهوري ضد سياسات الرئيس الأميركي باراك أوباما المتراخية تجاه الملف النووي الإيراني، وورقة ضاغطة أخرى تضاف إلى مجموعة أخرى من الأوراق بهدف إنهاء المراوغات الإيرانية في هذا الملف.
ويبدو أن الوقت قد حان لكي ينحني أوباما أمام صلابة الكونغرس الجمهوري، ويتخلى جزئيا أو كليا، عن تشبثه بسياسة النفس الطويل مع إيران، أملا في الحصول على نصر تاريخي يساعد حزبه في الانتخابات المقبلة، بتوقيعه اتفاقية نهائية تمنع إيران من حيازة سلاح نووي، عن طريق المفاوضات، خصوصا وأن المفاوضين الغربيين بدأوا يفقدون الحماس لمواصلة الدوران في هذه الحلقة المفرغة.
ولأن العقوبات الغربية، والأميركية بوجه خاص، لم تفلح، وحدها، لحد الآن، في تحقيق هذا الهدف، فقد أصبحت الحاجة ملحة لتغيير قواعد اللعبة على الأرض، واستخدام وسائل ضغط أخرى أكثر حسما لتركيع النظام الإيراني، وإحراجه داخليا وإقليميا، وإجباره على التسليم برغبة المجتمع الدولي وفتح جميع مواقعه النووية السرية للمفتشين، وهذا ما سوف يكون بداية اهتزازه وربما سقوطه في النهاية.
ويميل كثيرون إلى اعتبار التشدد الحوثي في اليمن، والتصعيد مع البحرين، والإصرار على مواصلة تعقيد الساحة اللبنانية ومنع البرلمان اللبناني من انتخاب رئيس، وانغماس إيران، علنا وبجدية أكثر، في حرب المليشيات الإيرانية العراقية ضد داعش ومسلحي العشائر السنية المعادية للوجود الإيراني في العراق، دليلا على شعور القيادة الإيرانية بالضيق، وبجدية التحديات، وفداحة الخسائر المنتظرة. إنه نوع من الهروب إلى الأمام ليس أكثر.
بالمقابل، وفي نفس الوقت، فإن هذه الهجمات التوسعية التصعيدية من جانب القيادة في طهران، في أكثر من موقع، ألقت على كاهلها أعباء لا طاقة لاقتصادها المنهك على احتمالها.
ثم تأتي حرب الأسعار النفطية الساخنة التي تقودها دول الخليج العربية لتضعها أمام تحديات جديدة وجدية لا قبل لها بها. وتقول التقارير المحايدة إن حزب الله أكثرُ أجنحة إيران تضررا بحرب الأسعار. فقد عمد إلى خفض إنفاقه على عملياته العسكرية في سوريا ولبنان.
وقد وصفت وسائل الإعلام الاسرائيلية غارة الطائرات مؤخرا في الجولان السوري المحتل بأنها “حادث جديد لم نر مثيلا له من قبل”، في إشارة إلى حجم الضرر السياسي والعسكري الهائل الذي ألحقه الهجوم بالحزب وبحليفه الإيراني، خصوصا في أعقاب تهديدات حسن نصر الله بهجوم محتمل على شمال اسرائيل.
وقال خبير الشؤون العسكرية ألون بن دافيد إن “إسرائيل سمحت لنفسها بالعمل في سوريا في السابق، لكن ليس بهذا الشكل. وهذه هي المرة الأولى التي تستهدف فيها موكبا لحزب الله على بعد كيلومترات عدة من الحدود مع إسرائيل”. ويفضح توقيت الهجوم علاقة الصواريخ الإسرائيلية بالملف النووي الإيراني، أكثر من علاقته بالصراع في سوريا والمنطقة، لأن آخر ما يقلق الإسرائيليين هوية من يقف على حدودها، مادام يلتزم بالخطوط الحمر المرسومة.
فالحرب الدائرة في سوريا على امتداد أكثر من ثلاث سنوات لم تجعل إسرائيل تشعر بخطر يهدد أمنها. ولا ننسى أن سقوط صواريخ وراء حدودها في الجولان المحتل لم يتوقف، منذ بدء الحرب السورية، من أطراف متحالفة مع النظام السوري وإيران، أو مناوئة لهما ومعارضة لوجودها في سوريا، دون أن تكلف إسرائيل نفسها عناء الرد. فإسرائيل ليست طرفا في الحرب السورية، ولا تريد أن تكون.
لكن جميع ردودها، في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مكان في سوريا، ومنها الهجوم على المفاعل النووي في دير الزور في سبتمبر 2007، والذي فضل الأسد تجاهله والادعاء لاحقا بأن إسرائيل قصفت منشأة زراعية ليست ذات أهمية. وفي السابع من ديسمبر عام 2014 قامت إسرائيل بعملية جوية استهدفت موقعين بالقرب من مطار دمشق وفى بلدة الديماس قرب الحدود مع لبنان، ووقتها دخلت بعض المقاتلات الإسرائيلية من جهة القنيطرة ومرت فوق مدينتي جاسم ونوى بدرعا، واتجهت إلى ريف دمشق، فيما دخلت مقاتلات إسرائيلية أخرى سوريا عن طريق لبنان من جهة بلدة يعفور بريف دمشق، وقصفت المقاتلات الإسرائيلية مقرات للنظام السوري في المنطقتين، شملت كتيبة الصواريخ “أرض – أرض” في الديماس، و”كتيبة باللواء 105”، وشحنات عسكرية كانت في طريقها إلى “حزب الله”، وكتيبة الدفاع الجوي التابعة للفرقة الرابعة.
ودمرت تلك الغارة الإسرائيلية جزءا من مركز الاستشعار والتحكم في بلدة الصبورة المجاورة لبلدتي الديماس ويعفور، واستهدفت غارة مقرات قرب مطار دمشق الدولي، وقد تكون استهدفت شحنات لصواريخ “أرض- جو” من طراز “إس 300” روسية الصنع. وفي يوم الجمعة 3 مايو 2013، استهدفت مقاتلات إسرائيلية، في ضربة جوية، شحنة صورايخ في سوريا قالت إنها كانت في طريقها إلى حزب الله. وفي 20 يناير 2013 نفذت القوات الجوية الإسرائيلية غارة استهدفت مركزا عسكريا للبحوث العلمية التابعة للجيش السوري في منطقة جمرايا بريف دمشق. أما في 31 ديسمبر 2012 فقد شنت إسرائيل غارة جوية ضد أربعة أهداف سورية على الأقل.
والأهم أن الغارة الإسرائيلية الأخيرة وضعت حزب الله، ومن ورائه إيران، في موقف الاختبار. فلو رد حزب الله بحرب واسعة قد يعصف بوجوده في سوريا، بل قد يجرده، لبنانيا من وهج قوته الظاهرية ويغري خصومه السياسيين اللبنانيين والسوريين بالإجهاز على ما بقي له من مواقع. أما إذا عمد إلى استخدام انتحاريين لمهاجمة أهداف إسرائيلية في الخارج فلن يكون أكثر من هواء في شبك، وسيجعله في نظر مقاتليه قبل غيرهم نمرا من ورق ويدفع بالكثير منهم إلى الإحباط.
أما إيران فهي في وضعها الحالي، ووجودها المتناثر في مساحة واسعة من الإقليم، أعجز من أن تدخل في مواجهات غير مضمونة النتائج هي في غنى عنها حاليا.
فأي عمل انتقامي إيراني ضد إسرائيل، في هذا الوقت بالذات، قد يخلط أوراقها في سوريا، وقد يمنح المعارضة السورية فرصة الانقضاض على ما تبقى من مواقع النظام وحزب الله والحرس الثوري، وهذا انتحار.
العرب اللندنية _ وطن اف ام