مقالات

ميشيل كيلو: رثاثة سياسية

من يراقب تطور الحركات السياسية، يلاحظ وجود ظاهرتين متناقضتين في كل واحدة منها: ظاهرة تعتبر عادة طبيعية، وأخرى رثة، تنمو على هامشها، وتلتصق بها، وتتماهى تدريجيا معها، بينما تقوم بحرفها عن مسارها المطلوب، وتستولي على قطاعات من أنصارها، أو تعطلها عبر تحقير قياداتها واستغلال غفلة أعضائها، وتدني سوية وعيهم، وإفسادهم بالتحزب والتعصب.

نجد هذه الرثاثة في كل حركة سياسية وفكرية، وهي تحتل مواقع مهمة في الحياة الحزبية عندنا، كما في حياة دولنا. لا غرابة في أن الستالينية كانت، على سبيل المثال، رثاثة الماركسية، والبعثية رثاثة الفكر القومي العربي، الرث في معظمه، ومصادر النزعة القاعدية رثاثة الفكر الديني… إلخ. وللأسف، ثمة رثاثات متنوعة في الثورة السورية، تكثفها نزعات سياسية متناقضة ظاهرياً، لكنها تلتقي وتتفاعل في ساحة مشتركة، وتفضي إلى نتائج موحدة أو متقاربة، على الرغم من أنها تنتمي إلى مدارس، توحي بتناقضها، كالثورية والمذهبية والطائفية والفئوية والقومية والوطنية والديمقراطية والمدنية… إلخ، وظيفتها حجب تماثل آليات اشتغالها عن أعيننا، وتطابق ما تقوم به على أرض الواقع من أفعال تتجلى دوماً من خلال مشكلات وأزمات عصية على الحل، تخترق جميع جوانب الواقع والحراك السياسي والفكري.
تشترك الرثاثات السياسية والفكرية في قواسم عامة، منها احتقار العقلانية، بحجة نبذ التنظير المجافي لواقع يتكون، في نظرها، من مقولاتها الأيديولوجية، وما تنتجه من أفعال محصنة ضد الخطأ، مغايرة لغيرها من الأفعال، ومقترنة دوماً بشحنة أخلاقية، تجعلها من عالم الخير والحق، وتضفي على القائمين بها صفات طهرانية، وعلى غيرهم سمات إبليسية شيطانية، لافتقارها أي قيمة معنوية، وغرقها في الضلال، وتعارضها مع الأخلاق، ما يحتم محاربتها بكل وسيلة، بما في ذلك قتل حملتها، بحجة منعهم من الإفساد في الأرض. بهذه الصفات، تتسم رثاثات السياسة بالإقصائية والعداء للإنسان وللحرية والعدالة والمساواة، أي لقيم الثورة السورية التي تتكبد خسائر فادحة، وتتعرض لهزائم متعاقبة، بسبب انحسار العقلانية والممارسات الديمقراطية والثورية لدى قياداتها وقواعدها، وصعود الرثاثات الوطنية والثورية والمذهبية والطائفية والجهوية والديمقراطية والمدنية وانتشارها في خطط وممارسات المنخرطين فيها، الذين أزاحوا، تدريجياً، قوى الثورة، بتكامل عفوي أو مقصود مع السلطة الحاكمة، وعهّروا قيمها، وحاصروا حضورها ودورها، بينما أصابها وعي العوام، غير المبنين أو التراتبي، الجاهل واللاعقلاني،
برثاثة جامعة، تختلط فيها السياسات الثورية/ المذهبية/ الطائفية والمدنية، العنيفة والخلاصية في آن، بأمراض شتى، قضمتها بالتدريج وستقضي عليها، إذا لم يبادر أنصار الحرية إلى تجديد قيمها عقلانياً وميدانياً، كقيم فاعلة، لا يكفي لانتصارها ما فيها من وعود. ومن المحتم أن تستعيد مكانتها الأولى من ثورة شعب سورية الواحد، وأن تفعّل قواه المعطلة، وتدفعها إلى الانخراط المباشر في العمل العام.
تتحدد طبيعة العلاقة بين أصالة السياسة ورثاثتها بحسن إدارتها وصواب رؤيتها ودرجة ونوع القبول بها، وتأثيرها في الناس والأحداث، بينما تسهم فوضى القيادة، وما يترتب عليها من ضياع سياسي وفكري، وممارسات عشوائية وارتجالية، وابتعاد عن الناس في تخلق الرثاثة السياسية والفكرية ونموها، والتي ما أن تذر بقرنها داخل حركة، حتى يظهر فيها من يتبناها، ويستخدمها لتشويه المجال السياسي، وتبديل هويته، كما حدث في الثورة السورية، التي أفقدتها الرثاثة السياسية والعسكرية، المتلاحمة والمتكاملة، جوانب من هويتها الأصلية كفعل حرية، ويرجح أن تضيع علينا فرصة إقامة نظام ديمقراطي، ودولة تنظم شؤوننا على أسس مدنية، إن لم نبادر جميعاً إلى وضع حد لها.

العربي الجديد_ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى