مقالات

فواز حداد: التوصيف الأدبي للحدث السوري

رغم وفرة الكتابات عن الحدث السوري، لكنها لم تجار حجمه ولا وقائعه، وإن فاضت بالمقالات والتحليلات والدراسات، فالمقام الأول لما يجري كان على الأرض ولكواليس السياسات الدولية. من جانب آخر، مازالت الكتابة الأدبية منذ بداية الأزمة في حالة انتظار، الا من استثناءات قليلة جداً. عموماً لم يفصح الأدب السوري عن مواقف الذين اختاروه مهنة وحياة، فالأديب الملتزم، لم تظهر مواقفه في كتاباته، بحجة أن الأدب يحتاج إلى وقت لاستيعاب مثل هكذا حدث تاريخي.

في بلادنا وما يحصل فيها، يمضي الزمن، وهو زمن أقل ما يقال فيه، إنه دموي، لم تعد هناك خفايا تؤجل الحكم عليه ولا الكتابة عنه، توجهاته انكشفت منذ الأيام الأولى. أما أسراره وهي لا تزيد عن أنشطة مخابراتية، وتعاملات بين أشباح. أما ما يدور خفية، فتشير إليه تسريبات، تكشف عن تنازلات، مساومات، انتهاكات، أغلبها ما زال طي الكتمان. عندما تظهر لن تغير كثيراُ من الصورة العامة، وهي لا تهم سوى التاريخ، وطغمة من السياسيين الذين يمارسون التآمر، وما يشبهه، أو ما يؤدي إليه.
منذ بدأت الاصطفافات تنجلي عن مؤيدين للثورة الشعبية، والموالين للنظام، تطوع رعيل من الأدباء للإدلاء بدلوه في هذه المحنة من دون أن يُحسب على هؤلاء أو هؤلاء، وهي عملية محفوفة بالخطر من النظام، لكنهم بطريقة ما برهنوا على أن الوطن هو محل اهتمامهم الأول، وقد وجدوا في “النصرة” و”داعش” والميليشيات الإسلامية المتطرفة خصماً متفقا عليه بين النظام والمعارضة، فصبوا عليهم نقمتهم، وأسقطوا الثورة من حساباتهم، بحجة أنها ذهبت ضحية المتأسلمين، فلم يعد لها وجود. وإن كانت ستذكر في كتاباتهم، بإعطائها أوصافاً ذات طابع أدبي، يشمل الحدث السوري الجاري، فلا تنبئ عن حرب يومية، وقصف وقتل وبراميل متفجرة. كذلك تعود إلى بدء الحراك الشعبي، وتتعمد البراءة، فما وقع ليس حركة احتجاجية ولا انتفاضة ولا ثورة شعبية… وإنما حدث يستمد التعريف به من الكوارث الطبيعية “بركان” “زلزال” “إعصار” “عاصفة” “طوفان”… وكأن الطبيعة هي المسؤولة عنها لا النظام الذي قمع شعبه طوال أربعين عاماً، ومثلها أيضاً الـ “مخاض” فالطبيعة أيضا تعاني من عسر الولادة وآلامها.
البراعة في توظيف هذه التوصيفات وما يشبهها، عدا التقية، أنها نظيفة من الدلالات السياسية. وهكذا لا الطغيان طغيان، ولا الاستبداد استبداد، ولا المجرمون مجرمون، ولا القتلة قتلة. كما بالتداعي العكسي يمكن نكران المظاهرات التي خرجت في آذار 2011، وما حصل من قمع وقنص، إذ من قام به مندسون، أما الجنود الذين انشقوا، ففارون من خدمة العلم، والاشتباكات التي حصدت الآلاف كانت ضد الوهابيين والعراعير، ولو كان الضحايا من المدنيين المصطفين أمام الأفران، أو جرحى في المشافي… وإحالة ما جرى سابقاً إلى ما يجري حالياً، حرب ضد ارهاب الميليشيات الإسلامية من “دواعش” و”نصرة”.
كان للثقافة السورية أقدار واعدة، بشرت بها طوال عهود أسماء مرموقة: عبد السلام العجيلي، نزار قباني، حسيب كيالي، سعيد حورانية، اورخان ميسر، جورج سالم، شوقي بغدادي، محمد الماغوط، زكريا تامر، هاني الراهب، سعد الله ونوس… أسماء أكثر من أن تعد وتحصى. اعلوا من شأن الثقافة السورية بمواقف كانت مستقلة عن السلطة، سواء كان الموقف قومياً، اشتراكياً، شيوعياً، وجودياَ، سريالياً، ليبرالياً… وعبروا عن اتجاهات متعددة، اختزلت تحت ريادة اتحاد الكتاب إلى موقف احادي تحت راية اليسار، كان البعثيون ركناً من أركانه، فاليسار لا ينبغي أن يفوتهم، كان صيحة العصر. اليوم يساريو السلطة العلمانيون، المدينون لنشأتهم البعثية القويمة والمتينة، يخوضون حروب السلطة الثقافية.
الحدث السوري الذي طال، اتخذ مجرى تاريخ مستمر، بات يشكل حاضرنا المؤلم في أسوأ أحواله، هناك من يحاول طمسه، في حين نعيش على وقعه، دونما بريق أمل بالخروج منه. تزويره لا يحتاج إلى جرأة، مادام الذي يمارس القتل، لديه من لا يتورع عن توصيفه بما يخفي جرائمه. الكتابة إن كانت حرة، فالواجب يدعوها إلى عدم التستر على “الكارثة”، ولا “الزلزال” فالجرائم ليست أسيرة ألفاظ. أي تسمية الأمور بأسمائها، التحايل ليس حلاً:
الأدب مثل التاريخ لا يرحم.

المدن _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى