بعد أربعة أشهر من الغارات الجوية والقتال على الأرض، أُعلِن أن بلدة كوباني ذات الاكثرية الكردية قد تم تحريرها من تنظيم «الدولة الإسلامية»، بعد محاولة هذا التنظيم السيطرة على هذه البلدة السورية الاستراتيجية الواقعة على الحدود السورية-التركية. وسرعان ما أعلن التحالف الدولي المناهض لـ «الدولة الإسلامية» النصر في هذا السياق، مستخدماً النجاح في كوباني للتأكيد على أن استراتيجيته العسكرية تحقق نتائج ملموسة. لكن، على الرغم من فشل «داعش» في مسعاه للسيطرة على كوباني، فإن خسارته ليست واضحة في هذه المعركة. فعند التدقيق في المشهد الأوسع، يتضح أن تنظيم «الدولة الإسلامية» حقق أيضاً مكاسب نتيجةً لذلك: مكاسب مرتبطة باستخدامه الذكي للاستراتيجية العسكرية والآلة الدعائية، بقدر ما تتعلق بنقاط ضعف لدى التحالف الدولي.
كان توسّع «الدولة الإسلامية» شمالاً نحو كوباني جزءاً من محاولة للوصول إلى معبر حدودي بين سورية وتركيا. فقد شكّلت تركيا معبراً رئيسياً لـ «الدولة الإسلامية» لأن المقاتلين الأجانب المجنّدين حديثاً يمرّون فيها في طريقهم إلى سورية، وأيضاً بسبب وجود سوق سوداء حيث يبيع التنظيم نفطه بأسعار مخفّضة جدّاً. لذا، كان من شأن السيطرة على معبر حدودي أن يمنح «الدولة الإسلامية» ميزة استراتيجية مهمة. ومع أن السياسة التركية تعارض تنظيم «الدولة الإسلامية» رسميّاً، لكن البعض في الحكومة التركية يتعاطفون معه -إذ يرَوْن فيه وسيلة لمحاربة النظام السوري–، فأسهموا بالتالي في غض تركيا الطرف عن نشاط «داعش» على الحدود التركية- السورية.
ثم إن تنظيم «الدولة الإسلامية» استغلّ هذا التعاطف، وكذلك المخاوف في تركيا من الطموحات السياسية لبعض مواطنيها الأكراد –ومن بينهم مناصرو «حزب العمّال الكردستاني» الذين يطالبون بإقامة دولة كردية– لتكثيف مستوى نشاطه للوصول إلى الحدود السورية- التركية. وفيما تقدّم تنظيم «الدولة الإسلامية» أكثر فأكثر نحو تركيا من الجانب السوري، حتى وصل إلى بلدة كوباني الحدودية، ظلّت أنقرة ترفض مطالبة التحالف المناهض لـ «داعش» بإرسال الدعم إلى المقاتلين الأكراد في البلدات السورية عبر تركيا. من خلال هذا الرفض، سعت تركيا إلى إضعاف قدرات القوات الكردية إلى حد كبير. وكانت النتيجة أنه قبل الوصول إلى كوباني، نجح «داعش» في السيطرة على سبعين قرية كردية في سورية وطرد العديد من سكّانها. وهكذا، ومع أن تنظيم «الدولة الإسلامية» فشل في السيطرة الكاملة على كوباني، إلا أنه سيطر على المزيد من الأراضي من خلال هذا المعركة، على الرغم من الانسحاب التكتيكي من بعض القرى الكردية، الذي قام به فور إعلان خسارته المعركة، والذي يشكل مساراً طبيعياً ضمن استراتيجية التنظيم العسكرية، لأنه يخوله التقاط نَفَسه فبل محاولة التوسع مجدداً وإن في مناطق أخرى.
حين وافقت تركيا أخيراً على فتح حدودها للسماح للمقاتلين الأتراك-الأكراد بدخول سورية لمساعدة نظرائهم السوريين، وجد تنظيم «الدولة الإسلامية» نفسه محاصراً في كوباني، وكان أمامه خياران مُهلكان: إمّا البقاء في البلدة ومواجهة هذا الهجوم الجديد من جانب «البيشمركة» وسائر المقاتلين الأكراد، أو الهروب وتعريض مقاتلي التنظيم إلى غارات التحالف الدولي. لم يكن رد الفعل الأول لـ «لدولة الإسلامية» على هذا الفخ عسكريّاً، بل إعلاميّاً: إذ ظهر الرهينة البريطاني جون كانتلي في شريط صادر عن التنظيم وهو يجول في أرجاء كوباني، متحدّثاً أمام الكاميرا عن سيطرة «الدولة الإسلامية» على المدينة. كانت هذه المحاولة الأولى التي قام بها هذا التنظيم للتعويض عن الهزيمة العسكرية من خلال الدعاية.
ولكن «الدولة الإسلامية» اكتشف في الهزيمة العسكرية المتوقّعة في كوباني أفضليةً استراتيجية: إذ إن التصدّعات كانت قد بدأت تظهر في صفوف مقاتلي التنظيم داخل سورية، ولا سيما على الصعيدَين الوطني والإثني، كما في صفوف أعضاء التنظيم السوريين، فقيادة «الدولة الإسلامية» كانت بدأت بإعدام المعارضين الذين إما شكّكوا في قيادتها، أو اعتُبِروا سبباً للشقاق في مختلف كتائبها المتعددة الجنسيات. وهكذا، عرف التنظيم أن كلّ مَن يُرسَل إلى كوباني سيلقى حتفه بشكل شبه مؤكّد، فعمد إلى إرسال الأعضاء الذين أراد التخلّص منهم إلى هناك، وبالتالي، استخدم معركة كوباني كغطاء شرعي لـ «تطهير» صفوفه.
مع اقتراب معركة هذه البلدة من نهايتها، لجأ تنظيم «الدولة الإسلامية» مرة أخرى إلى طريقته المجرَّبة لتخطّي خسائره العسكرية: الدعاية، فهو احتجز طياراً أردنياً كان يشارك في الحملة الجوية ضده، وهو الملازم معاذ الكساسبة، وعمد إلى عرضه عارياً من الخصر إلى الأسفل في شريط فيديو، كما أطلق شريطاً آخر يُظهِر إعدام رهينة من رهينتَين يابانيَّين، وصوّر بياناً للرهينة الثاني يدعو فيه إلى إطلاق سراح ساجدة الريشاوي –التي تنتمي إلى تنظيم «القاعدة» وحُكِم عليها بالإعدام في الأردن منذ 9 سنوات بعد تنفيذها هجوماً انتحارياً فاشلاً– مقابل سلامة الطيار.
حظيت الأشرطة الثلاثة باهتمام كبير من الإعلام، ودفعت الأردن إلى إعلان موافقته على إطلاق سراح الريشاوي مقابل الطيار، ولا سيما بعد أن تظاهر أفراد العشيرة التي ينتمي إليها هذا الأخير في عمّان مطالبين الحكومة ببذل جهد أكبر لإطلاق سراحه. وبالتالي، جاء إعلان الحكومة الأردنية خوفاً من «الدولة الإسلامية» كما من احتمال زعزعة الاستقرار في الداخل إذا تمت استثارة استياء القبائل. وعقب إعلان الأردن، ردّ تنظيم «داعش» سريعاً بإعدام الرهينة الياباني الثاني، فاستطاع بهذا العمل إذلال كلٍّ من اليابان والأردن، وهما عضوان في التحالف الدولي. يبقى مصير الطيار الأردني مجهولاً لدى كتابة هذه السطور، إلا أن «الدولة الإسلامية» سيواصل على الأرجح استخدام احتجازه للضغط على الحكومة الأردنية، وهذا الضغط يمتدّ ليطاول الدول كافة التي تشارك في التحالف.
تُظهِر سلسلة الأحداث المرتبطة بكوباني نمطاً أصبح راسخاً الآن: كلما شعر تنظيم «الدولة الإسلامية» أنه أُرهِقَ عسكرياً، لجأ إلى الحرب النفسية من خلال الدعاية للتعويض عن ضعفه. ومع أن التحالف الدولي ربح معركة كوباني عسكرياً، إلا أنه خسر حرب الصورة. فتفاوض الأردن العلني مع «داعش» منح هذه الأخير زخماً كبيراً، إذ مكّنه من إذلال دولة عربية وكشف مخاوف الأردن من مسبّبات عدم الاستقرار الداخلية والخارجية. كما أن أحداث كوباني أظهرت نقاط ضعف التحالف الدولي، إذ بدا أنه لا يمتلك استراتيجية متماسكة للتعاطي مع أزمات الرهائن، فاليابان رفضت التفاوض، في حين أن الأردن قَبِل به. فضلاً عن ذلك، ألقت هذه الأحداث الضوء على تأثير التحالف على تركيا، التي أدّى رفضُها التعاون فيما كان تنظيم «الدولة الإسلامية» يتقدّم نحو كوباني، إلى تسهيل التوسّع الجغرافي للتنظيم. وتمكّن «داعش» أيضاً من تحويل خسائره العسكرية إلى أفضلية من خلال استخدام كوباني كمَطهَر للمعارضين في صفوفه. يستحقّ محرّرو كوباني التقدير لإنقاذ المدينة، إلا أن المشهد الأوسع يعكس سيناريو أحلك في الحرب ضد «الدولة الإسلامية».
الحياة _ وطن اف ام