مقالات

خالد وليد محمود : لماذا هم متوحشون؟

عندما أراد تنظيم داعش أن يدير توحشه البشري، عمد إلى قطع الرؤوس. ولمّا أراد قذف الرعب في صدورنا، علق هذه الرؤوس على الأعمدة. وعندما أراد أن يُثْبِت لنا قدرته على ممارسة ما هو أبعد من التوحش، أحرق جثثنا أحياء.

كلما قلتَ إنه وصل إلى الحدود القصوى بالعنف، فاجأك بقدرته على ما هو أكثر من كل ما يمكن أن تتخيله، أو تراه في أفلام الرعب الأميركية. لم تعد إدارة التوحش لدى داعش “أداة ترعب فيه العدو ومن خلفه”، بل باتت نهجاً بعد أن استوحش القتلة، ثم تلذذوا بما يفعلون، ثم أدمنوه، ثم مارسوه على سبيل “التمكين”.

إنهم يقطعون الرؤوس، ويحرقون الحياة نفسها، ثم إذا ما شربوا الدم، وغفلوا عن أن يذكروا اسم الله عليه، انحنوا ابتهالاً إليه سبحانه أن يغفر لهم خطيئتهم.
أن تكون قاتلا أمر، وأن تتلذذ بالقتل، أمر آخر. ليسوا مغول العصر. من قال إن المغول وصلوا إلى ما وصلت إليه داعش؟ قطعًا سيتعب المؤرخون وهم يحاولون استخراج المصطلحات التي تصف المرحلة.

غبش الدخان، وصراخ الضحايا، وانسكاب الدم من عروق الإنسانية، يسود الآن. نحن بحاجة إلى قسط من الحياة، لنرى المشهد على حقيقته الدموية. فحتى الآن، لم يتكلم علم الجريمة بما “يشفي صدورنا”، ويقنعنا بما يفعله وحش بيننا.
لما حاول متخصصون البحث عن سؤال “لماذا هم متوحشون؟” لم يعثروا على إجابات واضحة.

وكيف يعثرون على إجابة. قيل مرة إنهم خريجو سجون التعذيب. لكن، هذا لا يكفي ليبرر كل هذا المغولية في التوحش. قيل إنهم يثأرون لدهر من القتل والاستعمار. مرة أخرى، هل هذا يكفي للإجابة على السؤال؟
من يلوم متخصصي علم الجريمة وهم يفشلون في العثور على إجابة لـ “زُمرة قَتَلة” بامتياز. يحملون “شهادات” في الإجرام، كيف يعثرون ولم يسبق لهم قراءة هذا النموذج اللاإنساني من القتلة؟ ألا تخجل الوحوش والضواري والكواسر من فعل ذلك؟ ألا نظلم البرابرة وهولاكو، إذا ما شبهنا “داعش” بهؤلاء، أو إذا ما قارنا ممارساتهم الفظيعة لوحوش تفترس لتأكل وتسد جوعها؟

جريمة قتل الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، “حرقًا” وسيلة قتل لم تأت على مثلها كتب التاريخ إلا فيما ندر، إذا ما استثنيا معتوهين مصابين بعاهات نفسية ارتكبوا مثلها لإرضاء نرجسيتهم وإشباع غرائزهم المريضة، وعندما يأتي التاريخ على ذكرهم، فإنهم من دون أدنى شك يشكلون نقطة سوداء بشعة، وفارقة، في صفحاته.

ببساطة، عندما يختص علم الجريمة بالقتلة من بني البشر، لن تكون مجدية إضاعة الوقت في الطلب من متخصصي هذا العلم العثور على شيء يقنعنا بالإجابة. فعلم السلوك الإنساني مختص بالبشر. هذا يعني أن على العلماء أن يدرسوا داعش كأكثر العقول “شيطانية”، ليستخرجوا لنا منها علماً جديداً يقف على أرضية إعادة استنساخ لنظرية دارون. لكن، بصورة عكسية. لقد بات بين ظهرانينا، اليوم، زمرة من القتلة المجرمين، لا صلة لهم بالجنس البشري، وقد نتوقع بعد “حرق الطيار” حيًا، أن يأكلوا لحم ضحاياهم أحياء، ويمضغوا أكبادهم، قبل أن تكف عن النبض. زمرة احتلت قائمة الصدارة في أقبح المصائر التي ينتهي إليها المصابون بالعمى الأيديولوجي والتطرف.

نعلم اليوم أنه بالإمكان أن يعود الكوكب مجددًا من حيث بدأ. دم وقتل وفوضى، لا يعرف فيه القاتل لِمَ قتل، ولا يعرف فيه المقتول لِمَ يُقْتَل.
الرابط الوحيد للطريقة المتوحشة التي تم فيها قتل الطيار بحرقه حيًا، أو حتى تلك الجرائم التي دفن فيها مئات من البشر وهم أحياء، أو الذين جرى نحرهم وجز رقابهم وقطع رؤوسهم، أو إطلاق الرصاص عليهم ورميهم في الأنهار هو شيء واحد، أنها ليست من أفعال بشر، ينتمون للإنسانية بشيء.
في الطريق الواصل بين ثأر الضحية لنفسها وإنجازها ما “يشفي صدرها”؛ لن تظهر داعش وهي تحرق أسيرًا، بكل هذا التلذذ الذي أظهرته قبل أيام. الحكاية ليست بهذه البساطة. هناك حلقة في السيناريو غائبة، أو مفقودة. سيناريو أعدّ على مُكث، مستدعيًا عقودًا من صناعة السينما.

عندما كان أبو بكر ناجي يكتب سيناريو “إدارة التوحش”، لتتلقفه الدوائر الاستخباراتية الأميركية وتترجمه، ثم توزعه على أفرادها، عرفنا أن عصر “نكايتنا”، وليس “نكاية” الأعداء، انتهى، وأن التمكين الذي تريده “داعش” لن يكون سوى حلم غرق في بحر من دماء المسلمين.

العربي الجديد _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى