لكي أعفي أنفسنا من وجع الدماغ المجاني وأتفادى عواقب الهوس الديني، أقر ببراءة الأديان من أي اتهام بالتحريض على تعذيب أسير، أو حرق “الآخر” المختلف في الدين أو المذهب أو الرأي. ولكن الشواهد تقول إن“حرق” النفس، التي حرّم الله “حرقها” لأي سبب، سلوك متواتر منذ واقعة هيباتيا (415 ميلادية) بأيدي حملة الصليب، إلى واقعة معاذ الكساسبة بأيدي رافعي المصاحف.
لا فرق بين الجريمتين إلا 1600 عام، مسافة لم تشهد ارتقاء في التعامل مع المختلف، فيسهل اللجوء إلى الحرق، انطلاقا من “فقه” بشري، لأنه لا نبي بعد محمد. فرق آخر بين الجريمتين، وهو غير زمني بالطبع، ولكنه إنساني وديني وحضاري، فعلى الضفة الأخرى لمسرح جريمة “حرق” هيباتيا، شهدت روما جريمة “حرق” جوردانو برونو، في مثل هذا الشهر (فبراير) عام 1600 ميلادية، بتهمة الهرطقة التي كلفته سجنا واستجوابا دام ستة أعوام. وكان “الشهيد” أقوى من كهنة المحكمة: “لعلكم أيها القضاة، وأنتم تحكمون بهذا الحكم، تحسّون الفزع والرعب أكثر مما أحس أنا عند سماعي له”، وبعد 300 عام على الجريمة، بكاه البابا، وأقيم له تمثال في مسرح الحريق.
انتهى حكم الكنيسة بصعود العلمانية التي حافظت على جلال الدين المسيحي. انتصر العقل في نهاية معارك جرت فيها أنهار من الدماء، بتحريض الكهنة. حدثت مراجعات واعتذارات عن جرائم هي ثمرة “فقه” لا يسأل عنه هذا الجيل من العقلاء رافضي وصاية القبور والكتب القديمة، في حين يفخر البعض في العالم الإسلامي بثمار دامية لفقه أسود تتوالى ضحاياه قتلا وحرقا، دون أن يخرج من فقهاء هذا الزمان “رجل رشيد” يعلن صراحة أن “الفقه على المذاهب الأربعة” ابن زمنه، يعنينا منه العبادات لا اجتهادات محدودة بوعي المجتهدين وآفاق إدراكهم، وأنه لا يلزمنا، ولا يصح أن ننظر عبره إلى واقعنا، ومن الإهانة أن يحدد لنا الطرق إلى المستقبل. ننتظر هذا الرجل الرشيد لكي يعتذر عن جرائم تسبب فيها “فقه” القدماء، ويذكّر مسلوبي العقول بأن الإسلام دين معجزته العقل.
ولكن كثيرا من الوقائع تسجل أن التكفيريين لا يختلفون عن حاملي لافتة “الوسطية” إلا في الدرجة لا النوع. ففي عام 1992 قتل الكاتب الأعزل فرج فودة فأدانه الشيخ “الوسطي” محمد الغزالي، وبرأ قاتليه في المحكمة. وفي يونيو 2013 وأمام الرئيس المصري الإخواني محمد مرسي حرّض سلفيون على الشيعة، فقام مواطنون بتعذيب أربعة من الشيعة وسحلوهم حتى الموت، ولم يهتم فقيه “وسطي” بإدانة الجريمة.
في هذا السياق تكون جريمة “الدولة الإسلامية في العراق والشام” – حين استأسدت على الطيار الأسير معاذ وحرقته حيا – مجرد اجتهاد يستند إلى أدلة من ذلك “الفقه الأسود”. أصدرت “الدولة الإسلامية في العراق والشام” التي تستنكر أن يطلق عليها اسم “داعش” فتوى “شرعية” تقول: “إن الأحناف والشافعية ذهبوا إلى جواز التحريق مطلقا، وإن تفسير المهلب ابن صفرة لقوله صلى الله عليه وسلم: (النار لا يعذب بها إلا الله)، ليس هذا النهي على التحريم، بل على سبيل التواضع”. وهذا تأويل داعشي يتناقض مع رسالة من بعثه الله رحمة للعالمين.
وتقول الفتوى الداعشية أيضا إن الحافظ ابن حجر العسقلاني قال “يدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمل النبي أعين العرنيين بالحديد المحمي.. وحرق خالد بن الوليد بالنار ناسا من أهل الردة”.
متى يخرج هذا الرجل الرشيد لكي يؤكد أن اجتهاد الصحابة في غير العبادات لا يلزمنا أيضا. اجتهدوا فلهم أجر أو أجران، ولم يكن يوحى إليهم، حتى إن عمر بن الخطاب ألغى سهم “المؤلفة قلوبهم” في اجتهاد لا يتناقض مع الآية التي تُتلى. أما حد الردة فهو من التاريخ، ولا يصح أن يثار في ظل دولة يجب أن يكون دينها القانون، لا الدستور الطائفي الذي تواطأ عليه الإخوان وسلفيون أصبحوا طرفا في تحالف 30 يونيو 2013 وفي مقدمتهم ياسر برهامي.
هذا الفقيه الرشيد المستحيل سيقطع الطريق، بالحجة التي هي أحسن، على رجل مكانه الطبيعي مستشفى الأمراض النفسية، لعلاجه من اختلال عقلي صريح، واسمه الحقيقي أو الحركي أبو إسحق الحويني، وله سابقة في التحريض على الغزو والسبي وبيع الجواري لإنعاش الكساد الاقتصادي في العالم الإسلامي.
وفي مقام “الحرق” يقول إنه “مستقر عند جماهير العلماء، وهناك نصوص كثيرة، من أبرزها وأوضحها حديث ابن عباس الذي رواه البخاري أن جماعة في أيام علي بن أبي طالب قالوا: عليّ هو الله. وفي رواية ثانية عن النسائي أن جماعة من الزط، جماعة من السودان والهنود كانوا يعبدون وثنا. الجماعة الذين قالوا إن عليا هو الله أتى بهم علي بن أبي طالب وعرفهم أن الله عز وجل هو الذي خلقنا جميعا ويرزقنا… واستمهلهم ثلاثة أيام. لم يرجعوا. حرقهم بالنار. ولع نارا ورماهم في النار. فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، فقال لو كنت منه، أي من عليّ، ما حرقتهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يعذب بالنار إلا رب النار”.
لاختلاف التأويل تم “حرق” نفوس بشرية حرم الله “حرقها”، هكذا يجادل الحويني، ويتجاهل واقعة أخرى كان الحرق فيها من أجل الدنيا. ففي عهد الإمام عليّ أفسد أنصار عمرو ومعاوية مصر على محمد بن أبي بكر، فرأى الإمام أن يولي بدلا منه الأشتر النخعي، ونصحه ألا يكون على أهل مصر “سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان.. إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق… فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه”، ولكن أحد أنصار عمرو ومعاوية دس له السم في العسل فمات قبل أن يبلغ مصر، وكانا يتندران بالقول “إن لله جنودا من عسل”. وبقي أمامهما عقبة محمد بن أبي بكر، فتعقبه معاوية بن حديج وقتله، ووضع جثته في بطن حمار وأحرقها.
هذا ماض ابن زمنه، فقه ينتمي إلى عصره، ينتظر ثورة تنسفه وتقتله بحثا. فهل الأزهر مؤهل لهذه المهمة؟ ربما يتأكد في المقال القادم أن الإجابة: لا.
العرب اللندنية _ وطن اف ام