مقالات

ميشيل كيلو : سورية … مجتمع يتسيّس وأحزاب تغادر السياسة

هناك مفارقة فاقعة تسم، اليوم، أوضاع المعارضة السورية في صعيديها “الرسمي” (المجلس الوطني والائتلاف)، و”الشعبي” (الأحزاب والتجمعات والتيارات… إلخ)، تتجلى في تقدم السياسة، فاعلية مجتمعية مباشرة وعامة، وتراجعها إلى حد التلاشي نشاطاً حزبياً.

وكنا قد طرحنا، للمرة الأولى في نهاية سبعينيات القرن الماضي، فكرة أن السياسة إما أن تكون فاعلية مجتمعية مباشرة وعامة، أو أنها لا تكون سياسة تلبي مصالح الشعب، وتنحط إلى ألاعيب، قد تكون برنامجية تماماً، سياسوية تتجسّد عبر مهاترات شخصية وحزازات كيدية وتكتيكات أقرب إلى التكتات الخالية من أي عمق استراتيجي، أو ثوري، يتصل بمصالح المجتمع والدولة. وكان قد أملى هذه الفكرة، في حينه، عجز المعارضة الحزبية عن إحراز أي تقدم في تفكيرها، وعلاقاتها مع مجتمعها وتحولاته، وأي تطوير في أبنيتها وطرق عملها، يجعل منها أحزاباً ديمقراطية ترفض أن تحتجز في مسائل ثانوية تمليها انتماءات دنيا، تقوّض قدرتها على التأثير في المجال العام، وممارسة أي دور فاعل فيه. في وضع هذه صفاته، اتسم بسيطرة النظام المطلقة على الشأن العام، كان من الطبيعي أن لا تلعب الأحزاب أي دور قيادي في الإعداد للثورة، أو توجيه مسارها، ولا تنقذها من فخاخ نصبتها السلطة لها، لتحويلها من ثورة حرية إلى اقتتال طائفي متعسكر.

ما كانت الثورة لتقوم، لو لم يتقدم المجتمع لممارسة السياسة، بما هي شأن عام، وفاعلية مباشرة له، انخرط فيها بمجرد أن أتيحت له ثغرة ينفذ منها إلى الشارع، فتحها له القطاع الحديث من الفئات البينية والوسطى، كالشباب وأصحاب المهن الحرة والمثقفين، ومعظم المنتسبين إلى المجتمع المدني. تقدم المجتمع المدني إلى الساحة العامة، بمعيّة قطاعات أهلية هائلة الاتساع من سكان القرى والبلدات والمدن الصغيرة والكبيرة وضواحي الصفيح.
واندمج القطاعان المجتمعيان، الحديث والتقليدي، في مسيرة واحدة، شعارها استرداد الحرية للشعب السوري الواحد، وبناء دولة ديمقراطية مدنية، تسودها العدالة والمساواة والكرامة. عندما التحقت المعارضة الحزبية بالحراك، سارعت إلى السيطرة عليه، مستغلة ضعف خبرته السياسية العملية والخططية، وتعرضه للسحق على يد النظام، وخلوّ مكانه قائداً وموجّهاً للتمرد المجتمعي الكبير. هذا الرهان الذي قام على فكرة ترى أن الفراغ يكفي، بحد ذاته، للحلول محل القيادة المغيّبة، ولتمكين الأحزاب من الانفراد بدور قيادي، لا ينافسها عليه أحد، يحل وعيها وتنظيماتها محل عفوية الجماهير، فشل لأنه بقي لصيقاً بخطط سياسية، رسمت لحالة مغايرة، كان قد أملاها على لينين وضع ثوري مختلف، قال ببناء حزب يحوّل انتفاضة عفوية إلى تمرد جماهيري منظّم، يغيّر موازين القوى السائدة لصالح ثورةٍ، تزيد من التصاق الجماهير به، ومن قبولها له، إلى أن يحاصر ويسقط بمعونتها “قلعة” السلطة، تحت ضغط حلفٍ، يضم أغلبية شعبية من العمال والفلاحين والانتلجنسيا.

مثّلت الثورة فعلاً حاسماً حقّق الشعب السوري، بواسطته، قفزة نوعية في وعي السياسة وممارستها، بيد أن حراكه افتقر إلى خطة عملية/ استباقية، تعطيه زمام المبادرة، وتجعله الطرف الفاعل والمبادر في وضع معقد ومتشعب فرضه النظام، اقتصرت مواقفه منه على ردود أفعال غاب عنها الترابط الإيجابي والديناميكي الذي تنتجه عادة المبادرة السياسية. في هذه النقطة، كان يمكن للأحزاب سد الفجوة المتزايدة الاتساع بين الحراك العملي وحوامله النظرية، واحتلال موقع طليعي، يضعها على رأس الثورة، إلا أنها لم تعِ هذه الضرورة، أو أن عوامل متنوعة حالت دون وعيها وقيامها بها، كضعفها التنظيمي والعددي، وتخلّفها الفكري والنظري، وشكّها في استمرار الثورة وانتصارها، وخوفها من النظام، وعسكرة الحراك، وانقساماتها وخلافاتها، مع أن نجاحها في مبارحة نقاط ضعفها كان يمكن أن يخرج الثورة من عنق الزجاجة الذي وجدت نفسها فيه، وأن يقصر فترة الصراع وبلوغ أهدافه.

سحق النظام الذين قاموا بالثورة وقادوها، وعجزت الأحزاب عن تقديم خطة سياسية ضاربة تضعها على رأسها، بينما لم يتح وقت كاف يعبّر صنّاعها خلاله عن مضامينها النظرية والعملية، بسبب ما تعرضوا له من سحق عنيف ومتواصل، خلال مرحلة مبكرة جداً من حراكهم، وغرق حاملها الأهلي في صراعٍ اكتسب أكثر فأكثر سمات طائفية متعسكرة استنزفت قدراته، بضغط من نظامٍ أراد دفعه إلى هذه الحال التي عززت نزعاته الانفعالية على حساب نزعاته العقلانية، الضامرة والمحدودة أصلاً، وساقته إلى خساراتٍ لا يستهان بها، على الرغم من عظم لم تعرف سورية حزباً طليعياً واسع الوجود بين العمال والفلاحين.

ولم تحدث فيها انتفاضة شعبية، يحولها الحزب الغائب إلى ثورة، ولم يتبلور في سياق الحراك حلف عمال وفلاحين يقوده حزب ثوري، وانقسمت الانتلجنسيا حيال ما حدث، ولم تكن قدرات المجتمع المدني التنظيمية، وخبراته الميدانية، عفوية، بل شهدت أساليب تنظيمية متطورة، تكفّلت بإدامة زخم الحراك طوال أشهر، على الرغم ممّا ظهر فيه من شعبويةٍ، أسهمت في إبقاء زمام المبادرة السياسية في يد النظام، حملت مواقفها العملية طابع ردود أفعال على سياسات السلطة وخططها، عجزت عن التصدي للمشكلات التي واجه بها الثورة، كمشكلة الطوائف، والتي استخدمها لفصل المجتمع الأهلي عن المدني: لعزل الثاني عن الأول، وما ضمه من كتل بشرية هائلة، تحركت في كل مكان مطالبة بالحرية، ولإلحاق هذه الكتل بقيادات مذهبية معادية للديمقراطية، مذهبية ومؤمنة بالعنف، بينما كان القمع يتكفّل بإبادة نشطاء المجتمع المدني، وسحب بساط الجماهير من تحت أقدام الأحزاب، وكان تعامل النظام مع الحراك يستعيد أسلوبه القديم، القائم على عزلها عن بعضها، وعن الشعب، والاستفراد بكل واحدة منها، والتلاعب بما يظهر، أو يزرع بينها وفيها من خلافات وتناقضات وصدوع، والتحكّم بتوجهاتها وتبايناتها المحتملة، أو الحقيقية، وحصرها تنظيمياً وسياسياً، ضمن حدود ضيقة، لا تسمح لها بممارسة فاعليات تغييرية، سواء داخل صفوفها أم خارجها. بعد صحوة قصيرة، بدا الحراك الثوري، خلالها، وكأنه يحرر الأحزاب من احتجازها، ويلهمها قراءة جديدة للواقع واحتمالاته، أشد غنى وثراءً وإبداعاً من قراءاتها التقليدية الرتيبة والباردة، تبيّن أن كوابح هذه الأحزاب أقوى من قدرتها على التجدّد الذاتي، وأنها عاجزة عن تغيير خطابها وممارساتها، وبلورة دور مغاير لما سبق لها أن عرفته في مراحل نضالها، السري والعلني. وبدل أن تتقدم، وتتحول إلى قائد للحراك والثورة، ظلت محمولة عليهما كقشة على سطح نهر صاخب، ولأن حامل الحراك الرئيس وقائده: المجتمع المدني، كان يتراجع تحت السحق، بينما كانت قطاعات واسعة من المجتمع الأهلي تعود إلى أيديولوجيتها التقليدية، المذهبية الطابع، وتنخرط في عسكرة فرضت عليها بمدافع ودبابات وطائرات الأسد، وبجرعات عنف مفرط، مورس ضد بنات وأبناء الأرياف والبلدات والمدن، جعل السلاح وسيلتهم الوحيدة للدفاع عن أنفسهم، مع ما ترتب على الفوضى الناجمة عن العنف من تقويض لمكان السياسة ودورها من الصراع ضد سلطةٍ، صار القتل سياستها الوحيدة .

قفزة في ممارسة السياسة
تضحياته، وما أبداه من مقاومة. كان الواقع يتطلّب إيجاد مخرج من هذا المأزق، كي تبقى الثورة وتنتصر. في هذه الفترة بالذات، تشكل المجلس الوطني السوري، فإذا به يقفز عن الإشكالية الداخلية برمتها، وينتهج خطاً وضع الحراك المجتمعي تحت حيثية الخارج، وربط مصير سورية به، وبما يمكن أن يتمخض عن سياساته من حلول، لاعتقاده أن ما وقع في ليبيا سيتكرر هنا أيضاً، وأن الخارج سيتدخل، حتماً، لصالح الثورة، وأن تدخله سيبدل علاقات القوى وموازينها، وسيحسم الأمور ضد النظام. هذا الانزياح بدّل طبيعة الثورة وشوّه مسارها. ثم، بعد عام ونيّف، تأسس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، فدعي، بعد تأسيسه، بأيام قليلة، قرابة ستمئة مقاتل ومنشق إلى تشكيل مجلس عسكري أعلى، وتسمية رئاسة أركان للجيش السوري الحر.

لكن الائتلاف لم يُدعَ إلى المشاركة في تشكيل القيادة العسكرية لجيشٍ هو مرجعيته السياسية، فكان لما حدث نتائج كارثية، أقلع الائتلاف معها عن تمثيل الشعب السوري بصورة فعلية، بينما وضع الجيش الحر في أيدي القوى العربية والأجنبية التي “أعادت هيكلته”. ذلك كان النتيجة الحتمية لسياسة وضع المسألة السورية في عهدة الخارج، الذي سرعان ما أحلَّ صراعاته محل ثورتها، وتصفية حساباته محل حريتها، وحوّل مقاومتها السلمية، ثم المسلحة ضد النظام، إلى حرب بالواسطة بين أميركا وروسيا وإيران وإسرائيل وتركيا وبعض بلدان الخليج… إلخ، شارك فيها مرتزقة متنوعو الجنسيات والمذاهب، أمعنوا، بدورهم، في تحويلها إلى حرب مذهبية، لا يربطها رابط بثورة الشعب السوري: ضحيتها الرئيسة. … واليوم، تدخل الصراعات الخارجية في طور جديد، بينما تبرز مجدداً الحاجة إلى بناء دور سوري مستقل، يعيد إلى الصراع رهانه الأصلي، ثورة في سبيل الحرية، ويكبح تحوله إلى حرب ستكون جد طويلة، في حال تواصل عجز الائتلاف عن إخراج الثورة من تشابكات لم تكن بالأمس، وليست اليوم أيضاً، في مصلحتها، أبقتها عاجزة عن التكور على ذاتها، وسمحت بجرها إلى حرب ضد الإرهاب، لا سيطرة لها على مجرياتها، يقال، صراحةً، إنها ستكون وقودها البري.

يطرح الظرف الراهن على المعارضين اختبار جدارةٍ هو فرصتهم الجديدة التي يتيحها لهم إصرار شعبهم على نيل حريته، ودورهم في صراعٍ يتخطى بلادهم، سيهزمون إن تم حسمه من دون مشاركتهم، باستطاعتهم الإفادة من حاجة العالم إليهم، لإصلاح أوضاعهم، وإخراج ثورة شعبهم من نفق دفعها إليه قصورهم كنخب، وتعدد قياداتهم وتناقض قواهم، وضمور عقولهم، ووضع قضيتهم بين أيدي قوى أجنبية، حولتها وحولتهم، هم أنفسهم، إلى أداةٍ، يستخدمها منذ نيف وثلاثة أعوام ونصف العام، في صراعات لا شأن لهم بها. كان ياسين الحافظ وإلياس مرقص يعلقان أهمية كبيرة على “عفوية ” الشعب، ويعتقدان أنها يمكن أن تتجلّى عبر صيغ أرقى من وعي النخب، حين يكون زائفاً، وأن تقدم لها فرصاً تعقل معها الواقع بطرقٍ تمكّنها من تطوير انتفاضة “عفوية” إلى ثورة، إن هي عرفت كيف تحدد مراحلها وقواها ومحطاتها، وكيف تلتقط خيوطها لحظة انفجار تناقضها مع النظام القائم، وكيف تشدها إلى نهايتها الظافرة: انتصار الثورة.

وقد كتب ياسين الحافظ مقالات عديدة، كرّسها لنقد “التنظيمات” التي وجد أنها تفتقر إلى وعي مطابق للواقع واحتمالاته، ولمّح إلياس مرقص إلى أن تحول السياسة إلى فاعلية مجتمعية هو بحد ذاته ثورة. أخيراً، وحين وقعت في سورية ثورة، احتاجت إلى مَن يضع خبرته وفكره النقدي في خدمتها، وتحولت السياسة إلى فاعلية مجتمعية مباشرة، منذ مارس/ آذار عام 2011، تبيّن أن طرف المعادلة الثاني: نخبنا الحزبية، وكذلك السياسية والثقافية، أسيرة عجز مزمن، قتل خيالها وروح المبادرة لديها، فلم تعِ ضرورة تطويرها، وتوحيد حراكها، ومنع انحداره إلى ما نراه من تخبّط وفوضى.

العربي الجديد _ وطن اف ام 

 

زر الذهاب إلى الأعلى