تدور عجلة الإرهاب سريعة في المنطقة، تطحن ضحاياها على عجل، بصورة صافية نقيّة كحدّ السكين التي تجزّ أعناق المواطنين، في البلاد الممتدة ما بين النهرين في سوريا والعراق، إلى شمال أفريقيا، مرورا باليمن، قبل أن توّلد فيها الصراعات على السلطة عصر الانقلابات وحروب الأخوة، وتحول كل شيء إلى خراب، لم تستجره سوى أنظمة الاستبداد التي أنشبت أظلافها في الجسد العربي، مثل جذور يصعب اقتلاعها دون سيول الدم.
فعلة داعش النكراء الأخيرة في ليبيا، تبدو حلقة جديدة في سلسلة الموت والخراب الإجرامي التي تمارسها الجماعات الإرهابية ضد شعوب المنطقة، ضمن نهج أسدي – إيراني – داعشي واحد، محرّكه الرئيس أنظمة القهر والاستعباد، التي أطلقت جماعات التطرف من مكمنها الذي هيّأَتْهُ على نار هادئة، كي يكون عقاب الشعوب بليغا وموغلا في حريقه، نظير الحرية التي هبّت مطالبة به، في وقت لم يعد فيه احتمال المهانة ممكنا، لتصبح المقاربة أكثر واقعية في الاختيار بين أمرين:
أنظمة الاستبداد والرضوخ كليّة لها، والاعتراف بصوابية نهجها الأمني، أو الذهاب إلى الفوضى والتطرف الذي ليس، بكل حال، سوى وليد تلك الأنظمة. في هذه النقطة تلتقي أيضا السياسات المتضادّة، للدول التي تتناصب فيما بينها العداء.
التطور السريع في امتداد الإرهاب يثير القلق، بمثل صورته التي ينمو بها، خارج أطر الجغرافيا، مهدّدا بنشر أوسع وأشدّ للحرائق، حيث تكمن الحاجة إلى خلق غول، أو تمرير مصالح دولية وإقليمية، لن تُدرك نتائجها، سوى لاحقا، في إطار إستراتيجيات رسم الملامح الجديدة للمنطقة، والتي تمثل جماعات التطرف والإرهاب واحدة من أهم أدواتها اليوم.
هل خرجت حالة التطرف في المنطقة عن السيطرة؟ وهل خلقت كي تنمو وتتمدد كما هو شعار تنظيم الدولة الإسلامية “باقية وتتمدد” الذي يتقابل، تماما، بالصيغة والهدف مع شعارات أطلقها النظام الأمني للأسد الشريك المباشر في خلق تكوينات الإرهـاب ورسم وحشيتها، عبر القول بـ“الأسد أو نحرق البلد”.
لقد نشأت هذه المجمـوعات الإرهـابية، دون شك من رحم الأجهزة الأمنية لدول الاستبداد، التي رعت استنساخ القاعدة وملحقاتها، وفقا للحاجة إلى ما يمكنّها من إعادة إنتاج نفسهـا، وبمـا يمنحها القـوة على الاستمرار، وتطوير أدوات القمع والتحكم بمصائر شعوب المنطقة، والاستحواذ على إدارة موارد المنطقة، دون شراكة أو رقابة.
لقد اجتاحت العالم العربي، رياح التغيير في مواجهة أنظمة القمع والاستبداد، التي استطاعت بحكم خبرتها الأمنية إفراغ الـربيع العربي من محتواه الأساسي المتمثل بالحرية التي تحولت إلى فوضى ودمار وحروب أهلية. في ليبيا كادت ثورة 17 فبراير 2011 أن تؤسس لمرحلة جديدة من التغيير، سرعان ما تمت الإطاحة بها بفعل عوامل داخلية وخارجية، لا تريد للثورة الليبية الجديدة أن تحقق ما قامت من أجله، فأجهضت أولى الثورات المسلحة في الربيع العربي، في الوقت الذي استطاع فيه نظام الأسد وشركاؤه جرّ الثورة السورية إلى التسلّح، كي تغرق سوريا في الخراب الذي لا أفق له.
منطقة الربيع العربي، يلعب فيها عاملان مؤثران، هما النفط والثروات المعدنية، وإسرائيل. وكلاهما بالنسبة إلى القوى الإقليمية والدولية خطان أحمران، لا يسمح بالاقتراب منهما. ورغم نجاح تلك القوى حتى الآن في لجم الثورات العربية من الوصول إلى هذين الخطين، فإن نجاح أي حركة تحرر وطنية، سوف تحمل خطرا على الاستبداد والنفط وإسرائيل، بموجب العلاقة التبادلية بين هذه الأطراف – القضايا الثلاثة، وأيضا بموجب النظرة إلى أن شعوب المنطقة لا يمكن أن تقود حركتها إلى تغيير ديمقراطي مدني. وهذا ما تم الاشتغال عليه، بتوليد مارد الجماعات الإرهابية المتطرفة، مثال القاعدة وداعش، ومن في حكمهما.
تمدد داعش في بعدين: الإجرامي والجغرافي، يفيد في تحقيق مزيد من الإرباك بالمنطقة، ويقود إلى تعويم أنظمة قلقة، لتبوؤ مكانة متقدمة في مكافحة الإرهاب، بحيث تتصدر كل الأجندات الدولية لصالح تهميش ومن ثم محاصرة قضايا التحرر من الاستبداد والانتقال الديمقراطي، وبناء المجتمعات المدنية في المنطقة. لذلك، ومع التطورات السياسية الجارية اليوم، فإن الذهاب إلى تسوية سياسية في سوريا، استنادا إلى رحيل الأسد، لن تكون ممكنة، في ظل بروز الحاجة إلى أنظمة ضاربة للإرهاب، كما يُعتقد، كنظام الأسد الذي يرى دي ميستورا من مرآة موسكو وطهران أن الأسد جزء من الحل، أي أن لا حل لسوريا سوى عبر دور أساسي له.
خلال فترات متقاربة، قفزت جرائم الإرهاب إلى معدلات قياسية، ارتكبتها داعش في سوريا والعراق وليبيا، يضاف إليها جرائم باريس وكوبنهاغن، وجريمة كارولينا الشمالية ضد عائلة سورية فلسطينية قد حظيت باهتمام كبير، غير أنها غطت على الجرائم الأكثر بشاعة في ممارسات إيران ونظام الأسد، التي لا تقل خطورة عمّا ترتكبه داعش، حيث تتحكم بحياة السوريين وأرواحهم.
كان لجريمة ذبح المصريين على شواطئ المتوسط، أن تهيل الغبار على جريمة العدوان على دوما، التي تتعرض كباقي المدن والبلدات السورية إلى حالة موصوفة من جرائم الإبادة الجماعية. كما أنها تبعد الأضواء عما تحضّر له إيران في جنوب سوريا، عبر الاحتلال المباشر الذي نفذته قوات الحرس الثوري الإيراني، لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية هي: منع سقوط دمشق، ومحاولة تفكيك التحالفات الهامة بين قوى الثورة في درعا وجوارها. والثالث هو محاولة خلق وضع إستراتيجي جديد في المنطقة، عبر إنشاء قوس نفوذ إيراني، ممتد من جنوب لبنان حتى الحدود الأردنية، عبر جبهة الجولان.
لا يمكن بأي حال عزل جرائم الإرهاب في المنطقة بعيدا عن إستراتيجية إيران الرامية إلى تعزيز احتلالها لسوريا، ومدّ أذرعها في اليمن وحيثما يقيّض لها، دون أن يبدي الغرب أي تحرّك فعّال لمواجهة ذلك، وكأنه يمدّ يده إلى إيران داعما ومؤيدا وشريكا.
العرب اللندنية _ وطن اف ام