بعد أشهر من إعلانها عن نيّتها تدريب المعارضة السورية المسلحة، وبعد مماطلتها لنحو ثلاث سنوات في دعم “ثوار” سوريا، بحجة البحث عن مقاتلين “معتدلين”، وقّعت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي اتفاقية مع تركيا، وربما مع دول عربية أخرى، لتدريب مقاتلين من المعارضة السورية يبدأ تنفيذها خلال أيام، على أن تكون طليعتهم جاهزة للقتال بحلول نهاية العام.
ما هو مُعلن من الاتفاقية أن الولايات المتحدة ستبدأ بتدريب 1200 مقاتل حددت هويتهم، وستُدرب نحو خمسة آلاف سنويا، حصة تركيا منهم تقريبا النصف، ويُعتقد على نطاق واسع أن الأردن والسعودية وقطر ستكون معنية بتدريب النصف الثاني، دون أن يُعرف ما هي مهامهم أو أسلحتهم، هذا بالمختصر المفيد.
من حيث المضمون، هناك معطيات تدعو إلى الاعتقاد بأن البرنامج الأميركي مجرد مشروع وسد للذرائع وتخدير للمعارضة السورية من أجل كسب المزيد من الوقت لتأجيل حل أزمة بلدهم.
في مستوى أول، يُنهي هذا الاتفاق الخلاف بين تركيا وأميركا حول العدو الذي ستحاربه هذه القوات، فأنقرة تريدها قوات بمهمة مزدوجة لمقاتلة تنظيم الدولة والنظام على حد سواء، بينما تتمسك واشنطن بأولوية محاربة تنظيم الدولة وبعدها مقارعة النظام ليرضخ لحل سياسي، فمن رضخ لمن؟ وهذا الأمر سيحدد موقف جلّ مسلّحي سوريا من المشروع الأميركي.
على المستوى الثاني يعتبر تدريب 1200 مقاتل حتى نهاية العام الحالي عمل رمزي ليس إلا، فلن يقدر هذا العدد على فعل شيء وحده أمام جحافل التنظيمات الإرهابية في سوريا، وجحافل قوات النظام التي باتت تستقطب ميليشيات أجنبية من إيران ولبنان وأفغانستان واليمن، وبافتراض أن تدريبهم كان استثنائيا للوقوف بوجه كلا الكتلتين، التنظيمات الجهادية والنظام وميليشياته، فإن هذا العدد من المتدربين سيُشكّل نحو 1.5 بالمئة من إجمالي الكتلتين، ما يعني أن كل مقاتل متخرج من المدرسة الأميركية سيقف بوجهه 75 مقاتلا من الأطراف الأخرى، وهي معادلة قد تصلح في السينما الأميركية فقط.
على المستوى الثالث، هناك غموض في تحديد هوية المقاتلين “المعتدلين”، هل هم إسلاميون معتدلون، وهم ممن تعجّ بهم سوريا، أم علمانيون وقوميون، أم جنود منشقون عن المؤسسة العسكرية من المحترفين، أم كل من يلتزم بالقوانين الدولية المتعلقة بالحروب بغض النظر عن إيديولوجيته؟
على المستوى الرابع يقتصر البرنامج على التدريب، وهو آخر ما يحتاجه “ثوار” سوريا، فهناك أكثر من مئة ألف منشق عن الجيش النظامي، بينهم ضباط أمراء وخبراء عسكرتاريا، مدربون على الأسلحة وتكتيكات الحروب، مهمّشون من أميركا لأنهم لن يقبلوا بمحاربة الدولة الإسلامية وحدها وتجاهل النظام. كذلك هناك أكثر من مئة ألف مقاتل مدني انخرط في الحرب، واكتسب غالبيتهم خلال أربع سنوات، خبرات قتالية لا يُستهان بها، وبين كل هؤلاء يمكن الحزم بأن جلّهم يأمل في أن ينتهي النظام ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية.
كل هذه التساؤلات لا تجيب عليها الاتفاقية الأميركية – التركية، وتشير إلى خلل في الأعداد والمستهدفين وطبيعة البرنامج والهدف، وتكشف وجود الكثير من الثغرات.
واقعيا، لم تطلب المعارضة السورية المسلحة في أي وقت سابق المساعدة بالتدريب، واقتصر طلبها على أحد أمرين يوصلان إلى نفس الهدف، حظر جوي أو أسلحة مضادة للطيران، وهمّها ردع سلاح الطيران الذي يستخدمه النظام بكثافة لقصف كل منطقة خارجة عن سيطرته، وكل شارع وكل قرية يشارك أبنائها في القتال ضده، وقتل نحو 70 بالمئة من الضحايا المدنيين به، ودمّر البنى التحتية لنحو نصف سوريا، ومنع الثوار من تحقيق أي توازن ردع معه.
في حقيقة الأمر، ما ينقص المعارضة السورية المسلحة ليس التدريب، ولن تُحل مشاكلها بتدريب 15 ألف مقاتل خلال ثلاث سنوات، فغالبا بعد ثلاث سنوات ستكون سوريا قد بقيت مجرد أشلاء دولة يتقاسمها أمراء الحرب، بل ما تحتاجه قيادة محترفة جادة ذات خبرة، موثوقة ومعتدلة، وهي متوفرة في المنشقين عن الجيش النظامي، يساندها دعم بأسلحة نوعية تُوقف طيران النظام بأنواعه، حيث سيؤدي تحقق الشرط الأخير هذا إلى إرعاب النظام وقبوله بالحل السياسي ورضوخه للعدالة الانتقالية.
خَسِر النظام السوري نحو ثلثي مساحة سوريا ولم يقتنع بضرورة الحل السياسي وأصر على الحرب، واحتل تنظيم الدولة الإسلامية نحو ثلث مساحـة سوريـا ولم تهتز للنظام السوري شعـرة وبقي مصرّا على حربه المُدمّرة، وقطعت غالبية الدول العربية ودول العالم العلاقة معه ولم يهتم، وبالتالي فإن تدريب بضع آلاف من مقاتلي المعارضة لن يُرغمه على القبول بالحل السياسي.
للمعارضة السورية المسلحة تجربة سابقة غير مشجّعة مع الأميركيين، في البداية زودوها بمعدات غير قتالية، خوذات وبدلات عسكرية وأغذية، ثم دَرّبت عدة مئات على الأسلحة الفردية والتمارين الرياضية وألقت عليهم محاضرات فكرية عن أخلاق الحروب، ولم تستفد منهم بتغيير مسيرة الحرب السورية، وكذلك ماطلت بحجة البحث عن المعتدل، بينما سلّحت مقاتلين في عين العرب (كوباني) دون أن تعرفهم.
لم يعد للأزمة السورية إلا طريقين للحل، الأول عبر تسليح واسع النطاق للمعارضة مع دعم عسكري جوي كثيف، وهو ما تقدر عليه أميركا دون الرجوع إلى روسيا أو غيرها، ولنا في تجربة سحب الأسلحة الكيماوية دليل لكنه حل مستبعد أميركيا.
والثاني، صدور قرار أممي مُلزم للجميع، يعيد للشعب السوري حقوقه ويُحاسب من قتله ودمّر حاضره ومستقبله، ويضمن بناء دولة ديمقراطية تعددية تداولية، وهو الحل الأنسب للسوريين. ودون أحد هذين الحلين، سيبقى الاعتقاد قائما بأن ما تقوم به الولايات المتحدة لا هدف من ورائه سوى كسب الوقت.
العرب اللندنية _ وطن اف ام