حراك سياسي متصاعد تشهده الأزمة السورية منذ أسابيع، وعلى الرغم من أن جديداً لم يطرأ لجهة التوصل إلى تسوية سياسية حقيقية ومتوازنة، إلا أن سمة جديدة ميزت هذا الحراك، خلاف المحاولات السابقة لنحت مسار سياسي للتسوية، أو إدارة الأزمة.
وهي التوازي بين محاولات التنسيق بين القوى المعارضة للنظام السوري ومحاولات التوصل إلى أرضية مشتركة، يمكن للنظام مع المعارضة الاستناد إليها في أي تسوية محتملة. المسكوت عنه في ذلك التطور أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، رفع يده عن الأزمة السورية، وصار موقفه منها أقرب إلى وضع “المراقب” منه إلى الانخراط المباشر طرفاً أصيلاً.
صحيح أن موقف واشنطن وحليفاتها الغربيات كان دائماً أقل من المتوقع، بل ومن المعلن، إلا أن الأمر انتقل من مرحلة التغاضي المقنع إلى الصمت الصريح. وكلاهما إخلال بوعد نصرة الشعب السوري، ونكوص عن وعيد بإسقاط نظام بشار الأسد. أمام هذا الخذلان الغربي، كان لا بد أن تتقدم موسكو لتستلم زمام المبادرة، وأعطى هذا ضوءاً أخضر للقاهرة، لتدخل على خط الأزمة وتنتزع دور الراعي الإقليمي للحل السياسي من تركيا.
في محاكاةٍ لتولي موسكو دور الراعي العالمي، بدلاً من واشنطن.
وكما كان التحرك الأميركي/ التركي يعتمد منطلقات واحدة متوازية، هناك مشتركات تجمع التحركين الروسي والمصري، أهمها، على الإطلاق، استبعاد جدوى الحل العسكري، ما يعني عدم التعويل على الحسابات العسكرية، أو المعطيات الميدانية على الأرض، إلا في حدود ما تمليه من شروط أو قيود على التفاوض، وبالتالي، انعكاسات ذلك على الحل أو التسوية المحتملة. الملمح الثاني المشترك في التحرك المصري الروسي أن الأسد باق حتى إشعار آخر، إن لم يكن بشخصه فبنظامه. و
هذا ليس موقفاً مصرياً روسياً فقط، بل هو أيضاً جوهر الموقف الأميركي الغربي، والدافع وراء الانسحاب من صدارة المشهد، تجنباً للإحراج. والواقع أن القبول الغربي لتأجيل خروج الأسد تجسد بوضوح في تفاهمات “جنيف-1″، بغموض نصها والتباس تفسيرها. ومن المفارقات أن أخطاء الغرب تتكرر بحذافيرها، فالانتقائية والفرقة في المعارضة لا تزال قائمة.
وبدلاً من إطلاق “معارضة اسطنبول” على المجلس الوطني، ثم ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، ثمة نموذج آخر قيد التشكل، سيكون جديرا بحمل اسم “معارضة القاهرة”. وبدلاً من أن تتقارب فصائل المعارضة، وتصطف معاً في مواجهة النظام ومعسكره، إذا بها تقترب من موقف النظام ومعسكره، بالتخلي عن شرط رحيل بشار، قبل خوض أي مفاوضات حول تسوية سياسية. وبعد أن يلتقي معارضون مختارون بالاسم في القاهرة، تلتئم معارضتا الداخل والخارج في باريس. وبينهما تعقد روسيا (موسكو-1) لتبادل الرسائل بين المعارضة والنظام. إنه تقريباً التسلسل نفسه الذي بدأ قبل أربعة أعوام، اجتماعات في اسطنبول ومباحثات في لندن ومفاوضات في باريس وحوار في جنيف، والمحصلة لا شيء، بل الآن الوضع أسوأ، فوقتئذ، كانت المحصلة ضئيلة والمواقف عالية.
الآن، تؤول المواقف والنتائج إلى الصفر. إن كان من مغزى في كل تلك التطورات فهو أن مطالب السوريين لا تشكل أهمية كبيرة، وأرواحهم لا تساوي كثيراً لدى أي طرف، سواء المعارضة ومن يقفون وراءها، أو نظام بشار وداعميه. وليس أدل على ذلك من العجز عن تأمين أدنى حقوق الإنسان في سورية، مجرد فتح ممرات وإدخال مساعدات للمنكوبين والنازحين والمشردين. أما النتائج المكرورة المتشابهة لكل التحركات والمشاورات السياسية، فدلالتها الخفية أن لا فرق حقيقياً يميز محور موسكو/ القاهرة عن نقيضه السابق (واشنطن/ اسطنبول)، إن لم يكن في الدوافع والأهداف، ففي الأداء والنتائج.
الخلافة، وصورة الحكم الديني الذي تدعيه “الدولة”، لا يبرران طريقة الصعق الإعلامي الذي تتبعه، وقد يبدو أن هذا التركيز الشديد على الصورة مطلوب لذاته عند التنظيم، وربما هو لا يمتلك غيره لتسويق نفسه، وقد وجد مخرجو داعش ساحة واسعة لاستعراض قدراتهم، مستغلين حقيقة أن الشرع لا حدود فيه أو أوامر أو نواهيَ تتعلق بتوجيه زوايا الكاميرات، ولا بضبط عددها، وقد حَدَّدَت أفلامُ التنظيم طريقة حياتها وإطارها الخارجي، من خلال وجودها في واقع حياة أهالي الموصل والرقة وغيرهما، لكن وجودها الفعلي سيكون أكبر على سيرفرات “يوتيوب” وفي ذواكر الكومبيوترات.
وفي كل الأحوال، لا يبدو هذا النوع من الإعلام منسقاً، ولا منظماً، فهو، وعلى الرغم من الحرفية الظاهرية للقائمين عليه، عشوائي، حيث إنه يصور المشهد وأذهان مخرجيه تفكر في الفيلم التالي، لتبقى الأعصاب مشدودة ومتوترة. وقد أثارت أفلام التنظيم نقاداً فوصفوها بأنها ذات تقنية درامية عالية، وهو تحليل خاطئ، فهذا الشريط يأخذ قيمة كبيرة لأن “الممثل” الرئيسي فيه يقوم بدور حقيقي! وهنا تكمن اللعبة الإعلامية التي تُكسب مخرجَ داعش مزيداً من النقاط.
ولأن المشاهد سرعان ما يمل، وأشرطة التنظيم ستتحول إلى مادة أرشيفية، ولأن التنظيم كيان يعتمد في قوته على الكاميرا، نصل إلى نتيجة أن تماسكه مزيف، وأنه كيان مؤقت معرض للتحلل، لكنه قد يتحول، حسب قوانين لافوازيه في تحول الكتلة إلى عناصر أخرى، ربما كانت أكثر خطورة من التنظيم بصيغته الحالية.
العربي الجديد _ وطن اف ام