مقالات

سعد كيوان : رستم غزالي وعدالة الأسد

النهايات الغامضة لكبار ضباط بشار الأسد مستمرة وبوتيرة حثيثة. منهم من قضى “منتحرا”، ومنهم من “قتل” في المعارك مع المعارضة، وآخر داهمه “مرض مفاجئ”، واللافت أن جميع هؤلاء الذين خدموا في لبنان متهمون بالتخطيط لعملية اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق، رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، ومطلوبون للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وقد سبق للمحقق الدولي الأول، ديتليف ميليس، أن اقتاد بعضهم في خريف 2005 إلى فيينا للتحقيق معهم.

قبل أيام، شُيع اللواء الذائع (والسيئ) الصيت، رستم غزالي، في دمشق إلى مثواه الأخير. لم يكن هناك حضور لأي شخصية رسمية من النظام أو من يمثله، لا سياسية ولا عسكرية، علماً أن غزالي استمر يمارس مهامه رئيساً لشعبة الأمن السياسي السوري حتى آخر أيامه، “معلناً ولاءه لقائده أسد بلاد الشام”، بحسب تعبير اللواء بهجت سليمان، المقرب جداً من بشار وعائلة الأسد، والوحيد على قيد الحياة من مجموعة الضباط التي واكبت الابن الثاني لحافظ الأسد، منذ ورث الحكم، في يوليو/تموز عام 2000.
وللمفارقة، تزامن الإعلان عن موت غزالي ودفنه مع الذكرى العاشرة لانسحاب الجيش السوري من لبنان، والذي كان هو رئيساً لجهاز أمنه والحاكم الفعلي بأمره في لبنان، خلفاً للواء غازي كنعان، الذي قضى “انتحاراً” في أكتوبر/تشرين الأول 2005، بعد ثمانية أشهر على اغتيال الحريري. وبعد أشهر من “انتحاره”، وجد شقيقه مقتولاً وملقياً على إحدى خطوط السكك الحديدية. وفي أثناء ممارسته مهامه الأمنية في لبنان، مسؤولَ فرع المخابرات السورية في بيروت أولا، ثم رئيساً لجهاز الأمن والاستطلاع في كل لبنان (2002-2005)، تصرف غزالي، من دون أدنى شك، بعقلية المحتل، الآمر الناهي و…الناهب. كان التحقير والقمع أسلوبه المعتمد، والفساد والارتشاء هوايته المفضلة. فمن مقره في عنجر (البقاع) كان يستدعي السياسيين والطامحين والمتزلفين وأصحاب غرض، يقرر ويحلّل، ويحرِم، ويعين وزراء ويقيل أو يذل آخرين. ويبتز، في المقابل، سياسيين ورجال أعمال، يعقد الصفقات ويفرض الخوات ويستبيح المحرمات، ويكدس الأموال في المصارف.
عاش رستم غزالي وشهد أهم وأخطر مرحلة سبقت ومهدت لاغتيال الحريري، وبالتالي، لا بد أنه يعلم أموراً كثيرة، وهناك من يرجح أنه كان له دور ما في عملية الاغتيال. فهو كان من الضباط الأربعة الذين حضروا الاجتماع الأخير بين الأسد والحريري، في 26 أغسطس/آب 2004، وهدد فيه بشار بـ “تكسير لبنان على رأس الحريري”، إذا لم يصوت يومها، هو وكتلته النيابية، للتمديد للرئيس الأسبق إميل لحود. والضباط الأربعة هم كنعان، جامع جامع، بهجت سليمان، وغزالي. وكان جامع مسؤول فرع المخابرات السورية في بيروت، وبعد انسحاب الجيش السوري أصبح رئيسا لشعبة المخابرات العسكرية، “قتل” هو الآخر في معارك دير الزور، في 17 يناير/كانون الثاني 2013.
وفي أول أغسطس/آب من عام 2008، اغتيل العميد محمد سليمان في مدينة طرطوس بكاتم للصوت، وكان مقربا جدا من الأسد ومدير مكتبه الخاص والمشرف على الأجهزة الأمنية، ومسؤولا عن الملف النووي السوري وضابط الارتباط مع حزب الله. وقيل يومها إنه هو من سهل عملية اغتيال القائد العسكري لحزب الله، عماد مغنية (12 فبراير 2008). ثم، في أغسطس/آب 2012 تم تفجير مبنى الأمن القومي في دمشق، وقضى أربعة ضباط هم صهر بشار ونائب وزير الدفاع آصف شوكت، وداود راجحة وزير الدفاع، وهشام بختيار رئيس مكتب الأمن القومي، وحسن تركماني رئيس خلية إدارة الأزمة، أي مواجهة الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في 15 مارس/آذار 2011. وبقيت ظروف العملية غامضة، إلا أن زوجة شوكت قررت مقاطعة شقيقها بشار، وغادرت مع عائلتها إلى الإمارات.
وتقول الرواية المتداولة إن غزالي وقع في فخ نصب له، إثر خلاف (مصطنع؟) وقع بينه وبين رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، اللواء رفيق شحادة، وتعرّضه للضرب المبرح على أيدي مجموعة من عناصر الأخير، وإصابته بعطل دائم، ما استدعى نقله إلى المستشفى. وهناك تم حقنه بمادة سامة، تكفلت بإنهاء حياته، بعد أن غرق في غيبوبة دائمة. أما لماذا تم الإيقاع به، فإن الرواية تستند إلى وقائع تتصل بتصفية حسابات مافيوية بين أجهزة الاستخبارات السورية نفسها، تتزايد مع الصعوبات الجدية التي بدأ يواجهها النظام فعلياً على الأرض في الفترة الأخيرة، وظواهر التفكك في صفوف الضباط والأجهزة. وإلى وقائع أخرى، توحي بتمدد الصراع العلوي-السني (غزالي ينتمي إلى الطائفة السنية) إلى داخل المجموعة البعثية نفسها، واعتراض بعض الضباط على طغيان دور إيران وحزب الله في إدارة المواجهة في سورية.
وكانت قد سرت، أخيراً، شائعات عن استعداد غزالي للمثول أمام المحكمة الدولية في لاهاي، التي كانت قد استمعت بالـ “صوت” إلى الشهادة الأولى التي كان قد أدلى بها أمام ميليس في 2005. وهذا ساهم على الأرجح في التعجيل بمحاولة الإيقاع به للتخلص منه، كما تم التخلص سابقا من الضباط الآخرين، أمثال كنعان وجامع ومحمد سليمان، بهدف عدم إبقاء أي من شهود الحقبة اللبنانية وجريمة اغتيال الحريري على قيد الحياة. هل بدأ الأسد يستشعر فعلاً بقرب الخطر منه واحتمال استدعائه إلى المحكمة؟

العربي الجديد _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى