مقالات

مصعب قاسم عزاوي : من أرمينيا إلى سوريا..مئة عام من الفاجعة

قرن من الزمان انقضى على تاريخ المجازر المهولة التي حصلت بحق من انتسبوا إلى القومية الأرمنية في عداد الشعوب التي انضوت في جغرافيا الدولة العثمانية. مبررات وقصص متناقضة حول مسوغات ما حدث آنذاك، يتنازعها التاريخ بكونه دائماً حمال أوجه، وخاصة حينما تصبح الحقيقة التاريخية تأويلية تفسيرية وفق مصالح وأيديولوجيا الناطق بها.

والحقيقة الثابتة والتي يجمع عليها المؤرخون هو تغريبة أكثر من مليون أرميني في سوقياتهم التي حملتهم تجاه بلاد الشام، حيث كان لهم في ناحية المرقدة على ضفاف الفرات في محافظة دير الزور السورية ملحمة تقارب في مأساوياتها أساطير اليونان القدماء؛ وجوهرها أن المنطقة أخذت اسمها من رفات من رقدوا فيها من شهداء السوقيات الأرمنية، وعمقها الملحمي يتجلى في رفض أبناء وادي الفرات السوري وأهالي مدينة دير الزور التنكر لمن التجأ إليهم عملاً بواجب إغاثة الملهوف الذي دأبت عليه القبائل العربية، وكان بالنسبة لأهل وادي الفرات التزاماً مترفعاً عن كل انتماء قومي أو ديني أو مصلحي حاضر آنذاك. حكايات وتراث شعبي شفاهي ومكتوب ببساطة يفيض في مدينة دير الزور عن حنو أهل المدينة جميعهم بفقرائهم وأغنيائهم على ضيوفهم من المرحلين عن أرضهم وتقاسمهم معهم الأكل والملجأ في وقت اعتيد على تسميته بين شيوخ المدينة بكونه سنة الجوع.
وحينما انطلقت الثورة السورية منذ أعوام أربعة في المحافظة السورية نفسها أي دير الزور، كان أحفاد أولئك الذين سطروا موقفاً نبيلاً حفظه لهم التاريخ، يعيدون تشكيل ذلك اليقين الوجودي بحقهم الطبيعي في أن ينتفضوا على ما فعله النظام السوري بحيواتهم، وحريتهم، وقوتهم، وكرامتهم. دون أن يحيدوا قيد أنملة عن ترفع أجدادهم عن تلمس أسافين لغرزها في الجسد الاجتماعي السوري من مدخل طائفي أو مذهبي أو إثني، فنادوا بإعلاء أقانيم بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية في مشاهد مغرقة في الوطنية تكاد تنطق بأن هؤلاء الأخلاف هم استمرار طبيعي لأولئك الأسلاف الكرام.
وتركت الثورة السورية لمصيرها المحتوم يتيمة من كل سند خارجي دونه لم يكن لأي من ثورات العصر الحديث أن تفضي لأي نتائج سوى اندثارها. وكان عليها أن تدفع الثمن مضاعفاً. فهي ثورة على مرمى حجر من تلال الجليل الأعلى تكاد تعكر صفو الحدود الصامتة منذ تسليم الأسد الأب هضاب الجولان لمحتليها. وأيضاً هي ثورة شعب يمثل حاجز الصد الأخير لطوفان العصبية القومية المتمذهبة الأعمى، الذي يشخصه بتزويقات متغيرة حسب واقع كل حال في متطلباته الإخراجية، من يرون واجباً إلهياً في استعادة إمبراطورية كسرى من المتوسط إلى بحر قزوين.
لم يكن السوريون أبداً طائفيين أو مذهبيين أو متعصبين. هم شعب مسالم، بسيط في أحلامه، عظيم في صبره على الظلم، واستثنائي في اجتراحه ما يشبه المعجزات للبقاء على قيد الحياة في مواجهة نظام فاشي حول الوطن السوري إلى معتقل كبير، ومسرح للنهب والفساد والإفساد الذي لا حدود له، بحيث يكاد لم يبق فيه للآباء السوريين سوى ابتلاع ألسنتهم، وأكل لحوم أبنائهم للبقاء على قيد الحياة.
نعم إنه تطور طبيعي حسب سنن التاريخ، أن تتنكس جميع الثورات إن أزمنت، ولكن تقهقر حال الثورة السورية لم يكن كذلك، بل كان مشوباً بتآمر كل «الأعدقاء»، من طهران إلى واشنطن مروراً بالكثير غيرهم، الذين اجمعوا على حشر أبناء الشعب السوري المنتفض في طريق اللاعودة وكأنه سوقيات تكاد تكون مستنسخة من سوقيات الشعب الأرمني المظلوم، فهو ما عاد يستطيع أن يقبل بالموت المقيم مشخصاً بنظام الأسد الذي انتفض عليه، ولم يعد يستطيع أن يتحمل هول الصبر على معادلة العين التي يراد لها أن تقاوم المخرز. فما كان له إلا أن يقبل بالخضوع، ولو إلى حين، بالانصياع إلى إرادات من تم تصنيعهم في سجون الاحتلال الأمريكي في العراق، وشركائهم الأمنيين من سجاني أقبية المخابرات السورية، والذين أطلق ربيب الأحلاف المضمرة بين «الأعدقاء» نوري المالكي العنان لهم بالفرار الآمن من سجونه بالمئات في أبو غريب والتاجي في إخراج هوليودي هزيل. فكان لهم أن يشكلوا النواة الطبيعية للشوك الداعشي الذي أريد له أن ينبت في بلاد الشام، ولم يفك أحد بعد شيفرة كفاءة أقنية تمويله، وعتاده، وإعلامه، واتصالاته ما لم يكن جزءاً عضوياً من حلف «الأعدقاء» المضمر.
إذا كانت التسمية الأكثر تكثيفاً وصواباً في توصيف ما حدث بحق مليون ونيف من أبناء الشعب الأرمني المظلوم منذ قرن من الزمن هي الإبادة الجماعية، فهل هناك من توصيف، ولو مقصراً، يختزل معاناة مئات الآلاف من القتلى، والمشوهين، والثكالى، والأيامى، والأرامل، والملايين من مشردي الشعب السوري مهيض الجناح؟

القدس العربي _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى