أصدرت محكمة جنايات القاهرة المصرية قرارا بإرسال أوراق القضية المعروفة بـ»الهروب من السجون» خلال ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 إلى مفتي الجمهورية لإبداء الرأي الشرعي في إعدام 102 متهمين بينهم الرئيس المصري المعزول محمد مرسي والداعية الإسلامي الشيخ يوسف القرضاوي والمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد بديع، وحددت جلسة 2 حزيران/يونيو المقبل للنطق عليهم، كما أحالت المحكمة نفسها أوراق 16 متهما بينهم خيرت الشاطر النائب الأول للمرشد العام، كما أن بينهم سندس عاصم منسقة الإعلام الخارجي لفريق عمل محمد مرسي لإدانتهم بتهمة «التخابر مع منظمات أجنبية».
يتحدّى قرارا المحكمة المنطق والعقل قبل تحديهما لمنطق القانون والعدالة، وهما يفعلان ذلك خدمة للسلطة العسكرية والأمنية الحاكمة قبل أي شيء آخر.
يتعلّق القرار الأول بقضية هروب جماعي لمعتقلين سياسيين من السجون تخللتها أحداث عنف قتل فيها رجال شرطة، واتهام رئيس منتخب ومنظمات وقوى سياسية وأفراد بـ«الهروب من السجون» يتنافى مع فكرة الثورة نفسها والتي تعني بداهة إسقاط نظام سياسي وإحلال نظام سياسي بدلاً عنه، وهو أمر لا يمكن أن يتحقّق بدون صراع جماهيري مع قوى الأمن والشرطة التي تحاول الحفاظ على النظام المستبد القائم، وهي شؤون تلازمت مع كل الثورات في العالم، بما فيها الثورات «المخملية».
ويتعلّق القرار الثاني بقضية «تخابر مع منظمات أجنبية» (اختار القرار منها بالتحديد حركتي «حماس» و»حزب الله») وهذا القرار لا يصحّ عقلاً حتى بمقاييس السلطة الحالية التي تقوم هي أيضا بـ«التخابر» مع حركة حماس، كما أنها تحتفظ بعلاقات حارّة مع النظامين الإيراني والعراقي (وحتى اليمني خلال المرحلة الحوثية)، وهما نظامان لا يمكن تفريقهما سياسة أو ممارسة عن «حزب الله» الذي ينتسب إليهما بالأواصر الأيديولوجية، ويمثلهما ويتعامل معهما تمويلا وتسليحاً و«تخابراً».
ينقض القراران نفسيهما بنفسيهما ومن دون حاجة لكثير جدال حول عوارهما القانونيّ (هناك بين المحكومين ستة شهداء فلسطينيين، أربعة منهم استشهدوا قبل حادثة الفرار من السجون وأسير محتجز في إسرائيل منذ 20 عاماً) وكذلك تهافت منطقهما السياسي أيضاً، فالنظام المصري يحاكم ثواراً كسروا قيودهم وهربوا من سجون العسف خلال ثورة شعبية كبيرة ما زال يتمسّح بانتسابه إليها، وهو يحاكم متّهمين بتهم قتل وخطف بعض أفراد الأمن فيما يتجاهل مسؤولية رموز السلطة التنفيذية القائمة التي اغتالت مئات المتظاهرين العزّل في ميداني «رابعة» و«النهضة».
مفارقات المشهد المصري في القضية المذكورة تواكبت مع صمت عربي كبير وهو أمر يظهر التآكل الأخلاقي للنخب السياسية العربية التي تظهر تصريحاتها أو تختفي بحسب التوجّه السياسي للتيار الذي يمارس عليه القمع، فهي تجأر بالشكوى حين تتعرض للقمع، وتصمد إذا كان خصمها السياسي هو الذي يتعرّض له، وهو ما يصلح عنواناً كبيراً للبؤس السياسي العربيّ.
وباستثناء «قلق» الأمين العام للأمم المتحدة، والولايات المتحدة وألمانيا وتنديد منظمات حقوق دولية مثل «العفو الدولية»، لم نر حراكاً جماهيرياً مناهضاً لقرارات القضاء المصري سوى في تركيا، بل إن زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، وهو حزب علماني، قال إن «الإعدامات السياسية لم ولن تأتي بأي خير مطلق على أي مجتمع بل تتسبب في حدوث جراح عميقة بعد فترة من الزمن»، ومجيء هذه التحركات والتصريحات القوية من تركيا يأتي من خبرة تركية أنتجتها محاولة النخبة العلمانية فيها لإلغاء تيّار الإسلام السياسي، فهذه الدولة التي اشتطت كل الاشتطاط منذ إعلانها جمهورية في استئصال هذا التيار وإبعاده عن الحياة العامة انتهى بها الأمر بعودة شعبية كاسحة لهذا التيّار تؤكّدها نتائج الانتخابات المرة تلو المرة.
لا نفهم المعنى الذي يتوخّى النظام المصري القائم إيصاله بقرارات الإعدام المتشددة وبهذا الاستهداف المبرمج لشعبه (وليس لجماعة سياسية بعينها فقط) غير أنه يرى في القوّة وحدها أصلاً للشرعيّة، وهي فكرة رهيبة سيستمر الشعب المصري في دفع أكلافها الفظيعة من لحمه الحيّ ما لم يحصل أمر يعيد المنطق إلى هذا البلد العظيم.
القدس العربي _ وطن اف ام