تتصاعد الاحتجاجات ضد التعذيب في كل مكان، وتتحدث عنه المواثيق الدولية، وتندد به المنظمات الحقوقية والإنسانية، لكنه على الرغم من ذلك كله لم يتوقف، ولن يتوقف في المنطقة العربية، حيث يتخذ طابعا رسمياً، يعلم الجميع بوجوده، وترعاه سلطات رسمية، لكنه يظل حاضراً بالغياب في المشهد المعلن، ليلقي بوطأته الشديدة على كل من يفكر في الخروج على طاعة الحاكم، وإذا كانت حادثة موت خالد سعيد من أهم بواعث ثورة 25 يناير ضد النظام البوليسي الحاكم في مصر حينها، فإن الظاهرة، بحد ذاتها، ظلت تستعيد حضورها في ظل هيمنة الأنظمة السلطوية المطلقة التي تمارس حضورها القهري على الشعوب العربية، أو حتى في ظل حكم المليشيات المسلحة التي تنفذ أحكامها خارج كل رقابة أو محاسبة.
يرى ميشيل فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة” أن الغاية من التعذيب تطويع الأجساد وإيجاد مجتمع انضباطي، يخضع لإرادة الحاكم، وقتل أي نزوع نحو التمرد والثورة، فالتعذيب، بوصفه ممارسة سلطوية، يقتضي نوعاً من العلنية غير الظاهرة، فهو ما يتداوله الناس همسا عن شدة السلطة وعنفوانها في قمع مناوئيها وإجبارهم على الطاعة، وفرض قانون الصمت عليهم. لذا، لم يكن غريباً أن تتوارد أخبار تعذيب المعتقلين داخل السجون العربية، وما تحمله من انتهاكات لبشرية الإنسان، فالصور المرعبة لمساجين نظام الأسد في سورية، أو ما يتعرض له مساجين الرأي في سجون الانقلاب في مصر (وجديد الضحايا فريد إسماعيل الذي توفي نتيجة الإهمال)، تكشف عن إرادة مقصودة من السلطة السياسية الحاكمة لإرسال رسالةٍ، فحواها أن الجميع يمكن أن يدفعوا ثمنا باهظا لكل محاولة للتطاول على السلطة، والمطالبة بحد أدنى من الحقوق والحرية، فالتعذيب، بصورته هذه، يمثل مؤسسة عقابية فعلية قائمة الذات خارج النظام القضائي “إنه طقس منظم من أجل وسم الضحايا وإظهار السلطة التي تعاقب”، كما يقول فوكو.
وإذا كان أحد جلادي النظام السابق في تونس قد فاجأ الرأي العام، قبل شهور، بالظهور على إحدى الشاشات، متبجحا بعمله، مبررا إياه بمنطق خدمة الدولة، فإن الحدث، في ذاته، لم يكن سوى صورة مشهدية، تستعيد جزءاً من ماضٍ قد يطل برأسه في أي لحظة، إذا فشل الشعب في حماية حرياته، وحفظ حقوقه التي نالها بعد تضحيات دامية. فإذا كان التعذيب جوهر الدولة الاستبدادية، فإن الجلاد هو رمز هذه الدولة، بل والعنصر الفعال فيها، بوصفه من يظهر قوة السلطة، ويعرضها على الأجساد، فالتعذيب، بهذا المعنى، يلعب وظيفة سياسية، ويتم ضمن احتفالية انتصارية على أعداء النظام الذين ينبغي اجتثاثهم، إن لم يكن فعلياً من خلال القتل، فعلى الأقل نفسياً ومعنوياً، حيث يخرج الضحية إلى العالم مجرد حطام جسدي، غير قادر على الفعل أوالمقاومة.
“يظل التعذيب ممارسة قهرية وجريمة ضد الإنسانية، لا يمكن تبريرها بأي شكل، وتحت أي شعار، مهما كان نبيلاً أو عظيماً” فمن خلال منطقها الاستبدادي اللامحدود، تمارس الأنظمة المستبدة التعذيب، باعتباره وصفة علاجية لما تعتبره مرضا يهدد وحدة الدولة، ويمس بهيبة النظام. إنه مبدأ الشمولية من إرادة المستبد الفريدة “جعل الموت قانونا للجميع، وكل جسم من هذه الأجسام المحطمة هو حجر في بنيان الدولة، فماذا يهم إن أصاب الموت الأبرياء؟” (فوكو). فالاستبداد يمارس نفوذه على الأجساد، ويحرص على أن يترك وسماً عليها، هو بالأحرى رسالة للشعب الذي يشاهد الصورة، أن أي محاولة للثورة والتمرد ستفضي بأصحابها الى التهلكة. وهذا التعذيب والأذى الجسدي نفسه تمارسه الجماعات المنفلتة التي تأخذ على عاتقها تنفيذ القانون كما تراه، فمهمة تطويع الناس وإخضاعهم هي الهاجس المركزي لكل منظومة سلطوية، مهما كان حجمها أو امتداد نفوذها.
الصرخات المتصاعدة من السجون العربية هي علامة على مدى الوحشية التي بلغتها الأنظمة المستبدة، وتحولها إلى مؤسسات قمعية بامتياز، تتقن فن تدجين المواطن، وتحويله إلى كائن انضباطي طيع، غير قادر على الرفض، أو المطالبة بحقوقه المجردة، غير أنه، وبقدر تضخم الآلة القمعية، فإن عنف الثورات عليها سيكون دموياً وحاداً، بالدرجة والقيمة نفسها، فما جرى في ظل النظام السوري، طيلة عقود القمع والاستبداد، أفضى، وبصورة آلية، إلى حالة التمرد الدموي الواسعة التي تشهدها البلاد، بل وأوجد جيلاً من الناس، لا يستنكف من مشاهد الموت والتعذيب والتصفيات الجماعية، وإن ما تقوم به أجهزة النظام الانقلابي في مصر، اليوم، إنما يهيئ التربة خصبة لردود فعل دموية عنيفة من جنس ما تقترفه أجهزته الأمنية على الناس.
ويظل التعذيب ممارسة قهرية وجريمة ضد الإنسانية، لا يمكن تبريرها بأي شكل، وتحت أي شعار، مهما كان نبيلاً أو عظيماً، وإن الحديث عن التعذيب وفضح مقترفيه وإدانة الأنظمة التي تتبناه يمثل جهدا أساسياً من أجل تحرير الإنسان، وتقنين وضعه الحقوقي الذي يضمن له الحد الأدنى من الحقوق والحريات.
العربي الجديد _ وطن اف ام